كأنها «ديستوبيا». هكذا تبدو بيروت، في العرض المسرحي التجريبي «كوكتيل شقف بلا معنى» (60 ــ إخراج جنى بو مطر) أو عالماً مريراً يجمع ثنائيات متعددة. الحب والكره، الحضور والغياب، الرغبة والموت، الجنس والحب... مشهديات من المدينة المنهارة، التي يناضل أبطالها/ الشخصيات الثلاث (فرح كردي، جو رميا، أنطونيلا رزق) ضد ربط أي معنى وأي وهم، بسردية الواقع السائد في المدينة، ويتساءلون عما إذا كان بإمكانهم الوجود، خارج المعنى، أو خارج الحب.تدخلنا المخرجة وتورّطنا، مراراً وتكراراً، في لعبة تقوم على «كسر الإيهام» حدّ الإفراط فيها. منذ بدء العرض وحتى نهايته، لا تنفك تذكّر المتفرجين بأنهم جزء من السرد، وما يرونه ليس إلّا وهماً مسرحياً. المتلقّي هنا هو البطل الحقيقي لكل ما يراه من شتات، وضياع، وموت، وخراب، وعذاب. ثلاث شخصيات، تعبث بنا، لا نكاد نصدقها، بل إنّها تقطع وهمنا، وتذكّرنا بمصائرنا. نسمعها تحكي عن بيروت، عن ضوء مسارحها، عن عشاق مساءاتها، الذين خبروا الحب، ومارسوه، بفجاجة أو رومانسية، بعد «كأس عرق»، وموسيقى، وقليل من الرقص.
تبدو أنطونيلا رزق الأكثر انخراطاً في اللعبة الإخراجية. أداء عضوي، وصادق، في حين خرجت كلٌّ من فرح كردي وجو رميا، أحياناً، عن مسار لعبة الكليشيهات المحكومات بها، إذ يحمل أداؤهما انفعالات خارجية في الوجه، ومشاعر وأحاسيس، غير عضوية، وغير مرتبطة بمعاناة الفنان الحقيقية، التي تولّد الإبداع. كان واضحاً أن إعداد الممثلين، لم يكن على قدر المطلوب، ليصل إلى شكله الاحترافي، الذي تصبو إليه المخرجة. على مستوى الأداء الجسماني، قُدمت التشكيلات الحركية، بشكل رديء للممثلين المشاركين. شاب ينتظر صبية على مقعد خشبي، أو في أحد المقاهي. يجلسان في إطار تشكيل حركي، لا يحمل أي عمق. كأننا في مشهد الرقص مع المظلات، أو مسرحية أطفال يقدمونها أمام ذويهم، في نهاية العام الدراسي. مع ذلك، تميز المشاركون بجودة أصواتهم، التي ملأت الفضاء المسرحي. بدا لافتاً مشهد قبلات الممثلين، فرح وجو، من فوق المعطفين اللذين غطيا رأسيهما. يبدو المشهد إبداعياً، ومحفزاً لأحاسيس، نضبت، أو تقلصت، نتيجة انهياراتنا.
على صعيد السينوغرافيا، ينقسم الفضاء المسرحي، إلى ثلاث بقع متنوّعة: البيت ذو الفرش الممزق، والمقهى، الذي يجمع شتات القاطنين في المدينة، والمقعد المليء بالحب. تنحصر كل المشهديات ضمن ذلك. يتحول العزف الموسيقي الحي لعلي صباح، إلى لغة سردية، ترافق تنقلات الممثلين، والأحداث. يعزف صباح على آلتَي الغيتار والدف، لينقل رتابة، وعبثية، وانهيارات المدينة. من هنا يمكن القول بأن الإخراج المسرحي، تتخلّله لحظات حميمية، قد يحملها المتلقي إلى ما بعد نهاية العرض. وهذا ما تطرّق إليه النص. إذ تسرد الكاتبة والمخرجة ما سيحصل للمتلقّين بعد نهاية العرض. سيشعلون سجائرهم، يعودون أدراجهم، ليبقوا عالقين في هذه المدينة، بلا جدوى، أو يحاولون مغادرتها، بلا رجعة. مع أن بعض الجمل النصية تحمل شاعرية تستدعي التأمّل، إلّا أن النص يخفت ليكون ساذجاً، في أحيان كثيرة، على سبيل المثال «كأنه الوقت ما بيعنيلي شي»، وتأتي بعض الجمل النصيّة خطابيةً ومباشرةً.
أنطونيلا رزق الأكثر انخراطاً في اللعبة الإخراجية


تختتم المخرجة «كوكتيل شقف بلا معنى» الجمل النصية الرنانة على ألحان النشيد الوطني اللبناني، لتهدم السردية الوطنية، وتستهزئ بها. تستبدل كلمات النشيد «في فخت بتكويني، بيشبه فخت المدينة، أنا بدي إنوجد، وهي بدها تخفيني». خيار إخراجي، بدائي كان يحتاج لبلورة أعمق، وتفرّد، وخصوصية، ترتبط مع بعض المفاهيم التي يطرحها العرض.
العمل الذي يأتي بدعم من «زقاق»، استغرق أشهراً من التحضير. يأتي موائماً للسياقات التي تعيشها بيروت. خليط من اللوحات، والمشهديات، التي يعيشها القاطنون أيضاً، من انهيار اقتصادي، ونقدي، وسياسي، واجتماعي، والبحث في خضم كل هذا الركام، عن أسئلة تتعلق بمصير الفرد.

* «كوكتيل شقف بلا معنى»: حتى الأحد 11 أيلول (سبتمبر) ـــ مسرح «زقاق» (الكرنتينا، بيروت) للاستعلام: 70/605771