منذ زمن طويل، لم تحقّق مسرحية تونسية النجاح الذي تحقّقه «آخر مرّة» لوفاء الطبوبي التي عرفها الجمهور الواسع في مسرحيتها الأولى «الأرامل». المسرحية تحطّ الرحال في «مسرح المدينة» في بيروت اليوم وغداً، بعد سلسلة طويلة من العروض في المدن التونسية والمشاركات الدولية، والعديد من التتويجات منها جائزة أفضل عمل متكامل في «أيام قرطاج المسرحية عام 2021. هذا النجاح هو ترجمة للقاء الفني بين المنتج الحبيب بلهادي رائد الثقافة المستقلة في تونس ومدير ومؤسس فضاء «مسرح وسينما الريو» وسط العاصمة التونسية بتجربته الطويلة (عمل منتجاً ومديراً للإنتاج ومنتجاً منفذاً مع أبرز المبدعين التونسيين أمثال فاضل الجعايبي، وفاضل الجزيري، ومحمد ادريس، وأنور براهم ولسعد بن عبدالله...) وبين وفاء الطبوبي خريجة المعهد العالي للفن المسرحي في تونس بطموحها وحرفيتها وجنونها بالمسرح. هذا الجنون الذي جعلها تصرف النظر عن عروض مغرية للتدريس في الخليج، لتبقى صامدة في تونس، ومؤمنةً بأبي الفنون كفعل مقاومة ورسالة حب.

تجمع المسرحية بين أسامة كوشكار الذي عرفناه في أعمال المسرحي الراحل عز الدين قنون، وفي بعض الأعمال التلفزيونية والسينمائية مثل مسلسل «الحرقة» (2021 ــ ﺇﺧﺮاﺝ: الأسعد الوسلاتي ـ كتابة جودة الماجري) ومريم بن حميدة في أول أعمالها المسرحية بعد تجارب في الكوريغرافيا، هي القادمة من مجال بعيد عن الفن (هندسة)، لكنها حصدت تصفيق الجمهور وإعجابه في كل العروض وبعض الجوائز الدولية. تصوّر المسرحية العلاقة الثنائية بين الرجل والمرأة وصراعهما الأزليّ بمختلف مستوياته بما فيه من حبّ وكره وغيرة وشغف وانتقام.
يتألّف العرض من ثلاث لوحات في فضاء فارغ وخال من الديكور، باستثناء مقعدين وطاولة وحولهما تدور الأحداث التي اختارت المخرجة والكاتبة وفاء الطبوبي أن تكون مختلفة عن بنية الحكاية التقليدية. تبدأ المسرحية بلوحة أولى تجمع بين موظفة شابة تصل متأخرة إلى المكتب لتواجه غضب رئيسها الذي يحتج على تأخرها المتكرّر، لتسرد معاناتها مع وسائل النقل والاكتظاظ وشؤون البيت. تكشف اللوحة عما تتعرّض له المرأة من تحرّش في العمل واعتداءات يومية في المجتمعات العربية وصمودها أمام محاولات التدجين وإجبارها على البقاء في البيت ووعيها كمواطنة درجة ثانية. أما اللوحة الثانية، فتجمع زوجين يعانيان من رتابة الحياة اليومية وثقلها. يتبادلان التهم بعدما كان الحب بل الشغف قاسماً مشتركاً بينهما. سرعان ما تتحوّل علاقات الزواج إلى واجبات ثقيلة يؤديها الرجل والمرأة على حد سواء بلا روح. كأنها واجب ثقيل ومعظم العلاقات الزوجية هي طلاق غير معلن في غياب أي تواصل حميمي بعد أن تذبل مشاعر الحب أمام عنف الحياة اليومية. أما اللوحة الثالثة، فتصوّر علاقة الأم والابن التي تتحول أحياناً إلى علاقة «عنف» عاطفي وعقدة أوديب في علاقة الابن مع أمه. لا تخلو هذه اللوحة من المواقف الساخرة بين الابن المدمن والأم الممزقة بين زوج غائب في الموت وابن غائب في الحياة. وقد أبدعت الشابة مريم بن حميدة في أداء دور الأم
المركّب.
يتألّف العرض من ثلاث لوحات في فضاء فارغ وخال من الديكور، باستثناء مقعدين وطاولة


على مدى ساعة ونصف الساعة، لا تتوقّف الحركة على الخشبة في صراع بين «هو» و«هي» وتداعيات نساء يشعرن بالاضطهاد والإهمال وعنف المجتمع ورجال يعيشون الاضطهاد ذاته. وإذا كانت المسرحية تدافع عن المرأة، إلا أنّها في الحقيقة تدافع عن الإنسان لأنّ الإحساس بالاضطهاد والعنف المادي والرمزي والإخفاق واحد.
يغلب الأسود على فضاء المسرحية مع شيء من البياض والحمرة، كأنّنا بها تشبهنا وتشبه حياتنا بما فيها من زخم، فما يحدث في الحياة اليومية من مآس وإخفاقات نتصوّره آخر مرّة، لكنه يتكرر دائماً كأنه أول مرة، وهي لعبة الزمن الأبدية. المسرحية التي تحفر في الروح الإنسانية وتفضح الظلم والاستغلال الجسدي والجنسي الذي تعانيه المرأة، كتبت بتكثيف شعري، إذ أبدعت وفاء الطبوبي، سواء على مستوى النص أو الصورة. وهو ما يؤكد منذ مسرحيتها الأولى «الأرامل» بأنّ الطبوبي سيكون لها شأن على خطى المسرحيين التونسيين الذين نجحوا في تحقيق الحضور العربي والدولي.

* «آخر مرة»: س:20:30 مساء اليوم وغداً ـــــ «مسرح المدينة» (الحمرا) ــ للاستعلام: 01/753010