يدخلنا المؤلف والمخرج أدهم الدمشقي، إلى عوالم باطنية متصدّعة، داخله، ويخرجها إلى الظاهر، ضمن عرض مسرحي يحمل عنوان «حديقة غودو» (مسرح مونو). بعرضه الذي يمزج الشعر، والفن التشكيلي، والموسيقى، والتمثيل، يتوجّه الدمشقي إلى الحواس، والشعور، والحدس. تبدأ الأحداث بعد انفصالِ حبيبين جمعتهما علاقة سامّة. تترك «ضنا» الحديقة قبل وصول الكلب «غودو» إليها بأسبوعين. غودو، كلب كان برفقةِ أدهم في نزهةٍ مسائيّة، عند الساعة السادسة و8 دقائق... لحظة تحولت حديقتُه إلى وطنٍ بديل، ليقدّم العرض مقاربة لاضطراب ما بعد صدمة الرابع من آب 2020. تنعكس تداعيات الصّدمة التي خلّفها الانفجار، على المفاهيم الوجوديّة، العاطفيّة، والانتماء إلى بيروت.يبتعد أدهم الدمشقي، في نصّه عن الكليشيهات التي تحوم في فلك العلاقات العاطفية السامة. لا يلقي العرض اللوم على أيّ من الحبيبين، اللذين ترافق انفصالهما مع ثورة تشرين، وما تبعها من إحباطات. نكسات وطنية مع نكسات عاطفية، يغوص الدمشقي في تفاصيلها وتداعياتها، رابطاً ماضيه، بسلاسة، مع الحاضر الذي يعيشه. عذابات قاسية، يستحضرها الدمشقي، مسترجعاً أمه، التي كانت تعمل في «تنظيف البيوت»، وأباه الذي كان يحرس، برفقة الكلاب، أحد الأبنية في بلدة «عين القسيس»، واضطرار الأب، نتيجة المرض، إلى ترك العمل وإفلات كلابه في «وادي مشيخا». تسكن صورة الكلاب الداشرة ذاكرة أدهم. هذا ما دفعه لتبنّي كلبٍ، في محاولة لترميم الصورة المهتزة مع أبيه والكلاب أيضاً. «بالزوايا، بالشوارع، عدواليب السيارات، بيروت صارت حمام كبير للكلب تبعي»... كأن النزهة مع «غودو»، وتبوّله في الشوارع والأزقة، كانا بمثابة «تشفٍّ وانتقام مما عشناه في هذه المدينة التي خذلتنا كلّنا». مع ذلك، أعادت النزهة مع الكلب ترميم العلاقة المهتزة مع بيروت، التي تشبه «الحبيب النرجسي، الذي يضعك أولاً في دائرة الحب، ويعطيك أحلى صورة لديه، ثم يكسرك، ومن بعدها يسحبك، ومن ثم يكسرك، من جديد».
كل ذلك تسرده الحبكة المسرحية... إلى أن يأتي العرض على ذكر الرابع من آب، يوم الفاجعة. يردم كل ما حاول الكلب وصاحبه، إصلاحه: «يوم الانفجار، انعكست الصدمة عليّ، ذلك أن صدمة واحدة كفيلة بإيقاظ صدمات كثيرة... تُرك «غودو» وحيداً وسط الركام... شعرت أن الزمن صار أبطأ، عدت إلى البيت، لكن عندما رأيته من جديد، في حديقة المنزل، شعرت بلحظة أمان، لم تشعرني بها دولتي». هذه الصورة الصادمة، حوّلها الدمشقي سابقاً إلى لوحة تشكيلية، ستُعرض في سياق العرض.
يتابع الدمشقي قساوة الصدمات، مستحضراً ما حصل يوم الأول من تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2020. يحاول استنطاق الجمهور في محاولة لدمجه وجعله جزءاً من العرض، ليتابع سرد ما نتج منه، وهو كتابة قصيدة، نُشرت في جريدة «الأخبار» تحت اسم «غودو» الكلب، الذي يتواجد على الخشبة طوال الوقت، ليكاد يكون بطل المسرحية. يقرن الدمشقي في عرضه، تيمة الانتظار، في نص «في انتظار غودو»، لصامويل بيكيت، من منظور مختلف. فالمفارقة هي أنّ «غودو» سيحضر على المسرح، هذه المرة، في حين، يظهر أدهم الدمشقي ضمن العرض من دون تكلّف فني أو إخراجي، وينقل حياته إلى الواقع.
يُقسم الفضاء المسرحي إلى فضاءين، يفصلهما حاجز. يفرض كل فضاء شروطاً على الممثلين، تحديداً ضنا مخايل، التي تعبر وتتنقل بين شخصيتها الحقيقية، وشخصيات أخرى تركن في حياة الكاتب. يشاركها في الأداء أيضاً: دانيل الشويري، مارك إرنست، غنا عبود، إلياس أيوب، سانديبل بطرس.
يندرج العرض ضمن إطار المسرح المتعدد الوسائط


يفتتح الدمشقي في عرضه «حديقة غودو» فصلاً جديداً من أدب الاعتراف، الذي يختلف عن الكتابة التصالحية، التي تقوم بين المريض والطبيب النفسي. لكن عندما تُنقل الكتابة ذات الأدوات الإبداعية، إلى الجمهور، وتتحول إلى أدب، يصبح التصالح الفردي، تصالحاً جماعياً، والشفاء الفردي، شفاءً جماعياً. كل ذلك يأتي بعيداً عن الخطاب المباشر، ليكون أقرب إلى البوح، وهو أحد سمات الأدب التصالحي، الذي يدعو إلى التحرّر من الصدمة والكلام عنها، بكل سلاسة.
يمكن القول إن هذا العرض يندرج ضمن إطار المسرح المتعدد الوسائط. يأتي ذلك نتيجة تعددية ممارسات أدهم مخرج «حديقة غودو» الفنية، بخاصة أنّ الدمشقي (1989)، حائز الماجستير في الفنون التّشكيليّة والدبلوم في فنِّ المسرح والتَّمثيل، وشهادات تدريبيّة في العلاج بالدراما. وكان قد أدار ورش عمل تدريبيّة في الأدب والمسرح. أصدر خمسة كتب شعريّة مُترجمة إلى الألمانيّة، الأرمنيّة، الإنكليزيّة والفرنسيّة. أعدّ وكتَبَ وأخرجَ مجموعة أفلام وثائقيّة. قدّم معرضين فرديّين تناول فيهما مقاربة لاضطراب ما بعد صدمة الرابع من آب: «عنبَر 2021» و«عبيط 2022»، وحوّل منزله، في الأشرفية، بعد الانفجار إلى فضاء ثقافي أسماه «عنبر» قدّم فيه حتى الآن ثلاثة مهرجانات ثقافية فنّية مجانيّة.

* «حديقة غودو»: س:19:30 مساءً بدءاً من اليوم حتى 4 حزيران (يونيو) ـــ عرض إضافي في 5 حزيران (5:00 عصراً) ــ «مسرح مونو» (الأشرفية) ـــ تُباع البطاقات في جميع فروع «أنطوان». للحجز والاستعلام: 70/604353.