لم يعش سوى 36 عاماً. تأثر بأفريقيا وبالشواطئ اليسارية في ليفورنو وبباريس وبكمبوديا. في إيطاليا عندما نقول موديلياني قد نقصد فرانكو، أو إليو، إلا أنّ أميديو مَن نتحدث عنه. الأشهر بين اشتراكيين (موديلياني ليس اشتراكياً) حملوا اسم عائلته أيضاً. إنه الفنان الوحيد في العالم، إلى جانب فان غوغ ربما، الذي يبدو لوحةً أكثر من كونه رساماً. بعد 134 عاماً على ولادته، ما زال موديلياني محيّراً. الحزن لا يكفي لتحقيق انطباع عادل تجاهه. وإن كانت العين، كما يقول بسام حجار، لا تحرّك المياه الراكدة في اللوحة، فإن الناظر إلى أعمال موديلياني، ما زال يشعر أن وجهه يمكن أن يكون وجه أحد آخر.
تحدث نيتشه عن أول صورة للإنسان المعاصر، لكن موديلياني رسمها على حقيقتها

سيضحك موديلياني من قلبه، سيفقع من الضحك، عندما يقول أحد النقاد إن لوحات موديلياني لا يمكنها أن تنافس لوحات فان غوغ. فلوحات موديلياني لا يمكنها أن تنافس لوحات موديلياني حتى. لم يكن الرجل تنافسياً. ولم يكن مسكوناً بالحداثة. كان مستعداً لبذل الكثير على سرير العالم. وهذا ما قد يوضح للنقاد أسباب ذهابه إلى المرتع الباريسي، هناك حيث كان يعرّف عن نفسه: «أنا يهودي». ولأنه موديلياني، لم يكن مفهوماً إن كان يفعل ذلك معترضاً على مناخات اللاسامية السائدة في أوروبا آنذاك، أو لأنه لم يكن يأبه بأصله السفرديمي. ذلك أن عائلته التي جاءت من مرسيليا، كانت تقول إنها تعود إلى سبينوزا، وهذا ليس تفصيلاً. الذي غيّر حياته، غالباً، هو لوتريامون. افتراض آخر بين سلسلة افتراضات. قبل «أناشيد مالدورو»، وقبل أي شيء، كان المرض. ما يعرفه النقاد أيضاً أن موديلياني يشبه كافكا، أو هذا أسهل وصف للنقاد العاديين. أن يعرفوه من حياته وليس من أعماله. ولكن ما لا ينتبه إليه كثيرون أن كافكا ولِد قبل موديلياني بعامٍ واحد فقط، ومات بعده بأربعة أعوام. كان ممكناً أن يكونا صديقين، لو لم يذهب الرسام الإيطالي إلى باريس، أو لو ذهب كافكا إليها. افتراض جديد. غير أن ذلك ما كان ليجعل موديلياني هو موديلياني، وكافكا هو كافكا. ما جعل لوحات «أميديو» تعيش في الزمن هو تجوالها في الضوء من مونمارتر إلى مونبرناس، غير أن هذا الضوء نفسه هو الذي التهم صاحبها: كان ضوءاً أكبر من أن تستوعبه عينان حساستان. لقد كان يرى العالم بقعاً متطورة من ليفورنو. عدم أكبر من العدم الذي قبله. ليس هناك ما هو استثنائي في أعمال موديلياني، بل كان نفسه استثنائياً، كان حاضراً في جميع لوحاته، متنازلاً ومتساوياً مع جميع الوجوه، حيث كل وجهٍ أشبه بساقية تنبع من الجنوب الشيوعي في ليفورنو، وتصب في باريس المتوهجة بالسواقي التي احتدمت فيما بينها وخسِرت جميعها.
لا يحصي موديلياني خسائره ولا أرباحه. يرسم وليست كل النساء في لوحاته امراة واحدة، ولا يشبِهن بعضهن. وهذا صار معروفاً. طعم اللوحات في طفرة الأسئلة المتاحة للواقفين خلفها. هل الشبه للحزن؟ سيكون هذا كلاسيكياً ومبخساً. هل الشبه لأن موديلياني كان اشتراكياً من دون أن «يفلق» رؤوس الجميع بإعلان ذلك؟ في لوحاته تستوي الوجوه في طبقةٍ واحدة. لا يوجد أشخاص أعلى وأشخاص أدنى. بالطريقة نفسها يرسم الجميع. لقد كان رسماً اشتراكياً عن قصد أو بدونه يرفض الانصياع لهيمنة القواعد البورجوازية السابقة. لم يخترع البورتريه، جاء ووجد العالم يرسم على هذا النحو. ما اخترعه هو الخلفية التي يقوم عليها البورتريه، بحيث لم يجد أي داعٍ لإظهار ما هو مبهر، أو ما هو مدعاة للتباهي في التقليد البورجوازي. ورغم أن معاصره الشهير، دييغو ريفيرا، كانت له مواقف واضحة انعكست في لوحاته، إلا أن ريفيرا اختار الإعلان عن الموقف، ما جعل العثور عليه في لوحاته سهلاً. أما موديلياني، وعلى عكس ما يعتقد كثيرون، لا تحمل شخوصه رؤيته الوجودية للعالم وحسب، بل تحمل هوية نفسها أكثر من أي شيء، بدون أي تأثير للزمن أو هفوة قد تدل إليه. إنها وجوه مرصعة بشحوب الماضي وأفول المستقبل الذي سيصير ماضياً، وغالباً ما حمّلها موديلياني نصف ابتسامات ساخرة. لا نعرف إلى أي طبقة ينتمي هؤلاء، لأنه لا يجب أن تكون هناك طبقات. كانت هذه طريقته ربما لإعلان موقفه المتكرر من الطبقات ومن القضايا التي شغلت عصره. ومن هذه الزاوية تجعله أعماله فناناً اشتراكياً غير تقليدي، وما يخرجه من هذا الافتراض هو حياته. رفضه الالتحاق بأي مجموعة من المجموعات التي كانت سائدة. لم يكن شيوعياً مثل بيكاسو، لم يكن من الملتفين حول بيكاسو، بل كان نداً له. لم يكن تجريبياً، ولا بوهيمياً. احترم التكعيب ومدرسة المعلم الإسباني، لكنه رفض أن يكون تلميذاً، على ذات القدر لرفضه للجماعة وتكورات الأفراد في جماعة، لأن ذلك باعتقاده غالباً ما ينتهي بانتصار العناصر المجتمعة على بعضها. اعتمد قاعدة فلسفية مختلفة، وفي المنطق الأرسطي يمكن أن نسمّي ما كان موديلياني يفعله استقراءً، أي العمل مع الجزئيات للوصول إلى صورة واضحة. وهذا ما يفسّر خلاصاته الفنية التي تنتهي بلا تحايل. لم يسع في حياته إلى المسايرة بالتجديد. البورجوازي، الأرستقراطي، العشيقة، المتعرية، جميعهم في طريقهم إلى العدم. أول صورة للإنسان المعاصر تحدث عنها نيتشه، لكن الذي رسمها على حقيقتها، بلا انفعالات أو إضافات حركية مجانية، هو موديلياني. رسمها أمام خلفية متشابهة دائماً بلا تعقيد. لون موشح دائماً خلف البورتريه، كجدار شاحب هو الحياة، والقفز عنه هو الموت.
كان رسمه اشتراكياً يرفض الانصياع لهيمنة القواعد البورجوازية

موديلياني لا يرسم المشاهد الطبيعية إلا نادراً، لأن الطبيعة متعالية، وهو أراد أن يعترض على تفسير التعالي. لذلك، فإن ربطة العنق، ورداء المرأة المغمس بالعرق، يستويان على أرض واحدة في أعمالهِ. لا مكان للتعالي في وجوهه، التي يقال إنها أقنعة وليست وجوهاً. ولكن من قال إن الوجوه نفسها ليست أقنعة. وفيما يبدو هذا دفاعاً متسرعاً عن عبثية موديلياني، يجب العودة إلى نيتشه، كما فعل رسامنا نفسه. إزالة العوائق التي يسببها التحليل النفسي، كانت المرحلة التالية بعد مرحلة المسح الطبقي التي يخضِع لوحاته لها. مجرّدة تماماً من جميع الاعتبارات الأرضية، ومن النظام بما هو سُلطة، يعلن تمرده عليها بالسخرية منها. وفي لوحاته يعلن أيضاً رفضه للغواية أو لمديحها، أي الاستسلام لما قد يخرج عن طور العرض ويصل إلى درجة الغواية، ذلك لأن لديه ما يقوله: لا طبقات. لا نظام. لا تعالٍ. المتعريات في لوحاته يتعرين من المجتمع، فلا تكتمل أجسادهن حد الوصول إلى الغواية، ولا تنمو إلى حدٍّ يخرجها عن وظيفتها. ما يرسمه هو الأجساد، بينما ما يرسمه الآخرون كان نظرة المجتمع إلى الأجساد. كان متمرداً، وحتى عندما جرّب النحت، جرّبه ضدّ رودان، وضدّ نظريات رودان التي صارت تقليداً في زمانها.
طوال الوقت، كان موديلياني يعترض على الحياة ويتمسك بها. كانت حرباً خاضها وعرفها. بدأت في ليفورنو، وقبل باريس مرت بنابولي وكابري. هناك مع والدته، قبل أن يدرس الفنون في فلورنسا وفينيسيا. كان جان كوكتو يسمّيه «الأرستقراطي خاصتنا»، ومالت إليه آنا أخماتوفا عندما التقاها في بداية القرن العشرين. ولا نعرف إن كانت قد كتبت هذا بعد موديلياني أو قبله: «هذا الألم ليس ألمي/ هذا الألم يفوق طاقتي بكثير/ إنه ألم أحد آخر». رغم أنه كان عبثياً، وأنها كانت عابرة بين عينيه، إلا أنه ربما أعارها الألم، وأورثنا إياه إلى الأبد. ليس لأنه مجرد رسام حساس ينقل الأرواح إلى ما بين البراويز ويطلقها كالفراشات، إنما لأنه سجّل موقفاً لا يبدو أنه قابل للتغيير: العالم سيبقى رأسمالياً، وكل ما يمكن فعله هو الاعتراض. نصف ابتسامات، على طريقة شخوص موديلياني، في فضائها الواحد. كانت الحياة مرضاً طويلاً، وكانت سريراً أيضاً.