شهدت أوروبا في أعقاب أزمة عام 2008 المالية بداية تبدلات في منظومتها السياسية، مع صعود أحزاب وتيارات، يسارية ويمينية، لا تندرج ضمن الأطر التقليدية التي استحوذت لسنوات على الساحات السياسية. وقد يتماهى ما تشهده ساحة الجمهورية في العاصمة الفرنسية راهناً (حركة الوقوف ليلاً) مع بدايات ائتلاف "سيريزا" في اليونان، و"بوديموس" في إسبانيا.حصدت تجربة "سيريزا" و"بوديموس" شعبية كبيرة، وخصوصاً بعدما استثمرا غضب الطبقة الوسطى التي باتت تشعر بالتهديد الوجودي، كما يقول الباحث الأميركي في علم الاجتماع، جايمس بيتراس، إضافة إلى ابتعادها عن اللغة الجذرية وخطاب الصراع الطبقي، والاستعداد للعمل من داخل المنظومة الأوروبية ــ الرأسمالية.
أما في القطب الآخر، عند اليمين الجديد، فلم تعد السياسة تتمحور حول "الحفاظ على امتيازات الاقتصاد الوطني"، كما يقول بيتراس، بل يعتمد هذا الطرف على ما يسميه الباحث السياسي، محمود ممداني، "التعويم الثقافي للغة السياسة". إذ يختزل اليمين المتطرف في خطابه الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بلغة ثقافوية عنصرية تشبه خطاب فاشيات أوروبا في القرن الماضي.
الباحث دايفيد هارفي، يعتبر أنه "في كل مرة تقع الرأسمالية في أزمة، كنّا نشهد على صعود نظريات جديدة وآليات مطوّرة لاحتواء الأزمة وتخطيها... كان ذلك يحصل عقب كل أزمة، باستثناء عام 2008". ويعيد هارفي ذلك إلى واقع العجز عن ابتكار آليات جديدة تسمح بتقديم الحلول للنظام القائم.
وبينما تصر النخب الأوروبية على الاستمرار في فرض السياسات نفسها، يشير هارفي إلى أنه في هذه الحالة، "تلجأ الرأسمالية إلى تحريك الأزمات جغرافياً"، وبذلك تدفع دول كاليونان أو إسبانيا (أو دول الجنوب الأوروبي عامة، أو حتى فرنسا ربما) ثمن إبقاء الآلة الرأسمالية على قيد الحياة رغم إخفاقها في تخطي الأزمات.
في ظل شروط كهذه، قد يصبح "تصوّر نهاية العالم أمراً أسهل من تصوّر نظام بديل للرأسمالية"، كما يقول المفكر السلوفيني، سلافوي جيجك. ولذلك، في حين اقتصر دور اليمين المتطرف في غالبية الدول (باستثناء بولندا مثلاً، حيث تسلم الحكم) على دفع اليمين الوسطي إلى تبني لغته بقوالب ليبرالية، جاء اليسار "غير اليساري"، كما يصفه بيتراس، ليواجه تبعات أزمة المنظومة من داخلها.
على هذا الصعيد، قد يكون من واجب "اعلام" الحراك الفرنسي الجديد (الذي يزال محدوداً)، استعادة التجارب الأخيرة التي شهدتها دول أوروبية.
يعتبر جايمس بيتراس أن "جذرية الطبقة الوسطى تنبع من نوستالجيا للماضي"، ولذلك لا تبحث تلك الطبقة عن ممثل لها ليقارع الرأسمالية بهدف تخطيها، بل جلّ ما تريده هو العودة إلى النموذج الأوروبي لدولة الرفاه. فيما يرى جيجك أن الطموح للعودة إلى تلك الأيام لا معنى له، إذ يعتبر أن دولة الرفاه كانت بمثابة أداة تستخدمها الرأسمالية لمواجهة الأنظمة الشيوعية، وبالتالي، بدأت الرأسمالية بالاستغناء عنها إثر سقوط الاتحاد السوفياتي.
والمفارقة التي واجهها "سيريزا" في اليونان كانت تتمثل حقيقة في وعيه التام أن أي مواجهة مع أوروبا يجب إما أن تستهدف جوهر المنظومة الأوروبية ككل، وبالتالي المنظومة الرأسمالية، وهذا أمر محكوم عليه بالإخفاق. ويبرر "سيريزا" عدم دخوله في تلك التجربة، وبالتالي خضوعه وخروج شخصيات بارزة منه، بالقول إنّ الشعب اليوناني (الذي دعمه وأبدى استعداداً للمواجهة عبر استفتاء) لن يتحمّل تبعات تهديدات "مجموعة اليورو" بـ"سحق اليونان".
عموماً، أخفق اليسار في أوروبا حتى الآن في طرح منظومة اقتصادية بديلة، بينما يعتبر هينر فلاسبك، وكوستاس لابافيتاس، في كتابهما "ضد الترويكا"، أن اليسار اليوم لا يزال يتصوّر أن بإمكانه حل أزمة الاتحاد الأوروبي عبر تقديم مرونة في الشؤون المالية وإعادة توزيع الثروات، "من دون أن يمزق النسيج المجتمعي الأوروبي". لكن الاقتصاديين يريان أن المهمة الحقيقية لليسار الأوروبي تكمن في تغيير جوهرالمنظومة الأوروبية، لا في "إصلاحها".