استقرار أسواق المواد الأوليّة الغذائيّة خلال العام الجاري مرجّح جداً، بل منطقي، بسبب الأزمة الماليّة والركود العالميّين. لكنّ انخفاض فاتورة استيراد الغذاء كونياً بنسبة 22 في المئة، وفقاً لآخر توقّعات منظّمة الغذاء والزراعة (FAO)، لا يعني أبداً أنّ شبح ارتفاع أسعار المواد الغذائيّة وحتّى المجاعة لا يزال يتربّص بسكّان الأرض وتحديداً فقراءها
حسن شقراني
تحدّث القادة الدوليّون، وبينهم رئيس البنك الدولي روبرت زوليك والأمين العام للأمم المتّحدة، بان كي مون، أخيراً عن الآثار الاستراتيجيّة للأزمة الماليّة العالميّة والركود الذي أطلقته والذي يعدّ الأقسى على الرأسماليّة منذ الحرب العالميّة الثانية. وقالوا إنّ بذور أزمات اجتماعيّة بدأت تُرصد في العديد من البلدان في العالمين الناشئ والصناعي (العالم الفقير يتأقلم أساساً مع واقع الأزمات المستمرّة!). فالركود يولّد بطالة، وبالتالي تراجع المؤشّرات الاجتماعيّة.
وإذا استثنينا الانعكاسات السياسيّة لهذه المسألة، التي حذّر المسؤولون أيضاً من واقعيّة حدوثها، فإنّ الاضطرابات الاجتماعيّة ستولّد الفقر في المراكز الصناعيّة وستفاقم الفقر كماً ونوعاً في الأطراف. لذا، فإنّ سكّان البلدان الفقيرة سيكونون الأكثر تأثّراً من الأزمة التي لم يكن لديهم أيّ دور على الإطلاق في اندلاعها.
ووقع هذه الأزمة على الفقراء سيُرصد على صعيد المؤشّرات الأساسيّة بعدما شهد العام الماضي إحدى أسوأ موجات ارتفاع أسعار المواد الغذائيّة على الإطلاق. فقد سيطرت على أسواق السلع عالمياً موجة جنون أوصلت سعر النفط إلى قرابة 150 دولاراً للبرميل ورفعت سعر بعض المنتجات الغذائيّة الأساسيّة مثل القمح والذرة بأكثر من 40 في المئة. هذه الأوضاع أدّت إلى حركات احتجاجيّة في أكثر من 25 بلداً حول العالم وإلى اضطرابات سياسيّة.
والآن، فيما يُبحث وقع الأزمة الماليّة على فقراء العالم تعود الهواجس الغذائيّة وانعكاساتها الاجتماعيّة إلى طاولة البحث الرئيسيّة. فمنظّمة الغذاء والزراعة التابعة للأمم المتّحدة توقّعت في تقريرها نصف السنوي «آفاق الغذاء» الذي نشرته أمس، أن تنخفض قيمة فاتورة الغذاء العالميّة بنحو 22 في المئة خلال عام 2009 بسبب تبادل السلع الغذائيّة الأوليّة بأسعار أقلّ بكثير من تلك التي كانت سائدة في عام 2008.
وستبلغ تلك الفاتورة 790 مليار دولار بعدما كانت 1.015 تريليون دولار في العام الماضي، وهو رقم قياسي تاريخي. لكن رغم هذا الانخفاض، فإنّ «البيئة الاقتصاديّة المتدهورة ستطيح معظم المكاسب» المحقّقة. والسبب يعود إلى معطيات بديهيّة: 1ـــــ رغم تراجع فاتورة استيراد الغذاء، إلّا أنّها ستبقى ثالث أكبر فاتورة مسجّلة تاريخياً. 2ـــــ الركود العالمي أدّى إلى إلغاء وظائف وخفض رواتب، وبالتالي إرهاق موازنات العائلات حول العالم، ما يعني أنّ تراجع الأسعار سيقابله تقلّص القدرة الشرائيّة.
وإلى جانب هذه المعطيات لا يجب التسليم كلياً بأنّ الأسواق استقرّت. ومثلما هي الحال بالنسبة إلى سعر النفط الذي سجّل خلال الأسبوع الماضي أعلى مستوى له في 7 أشهر متجاوزاً 68 دولاراً للبرميل، تتطوّر أسعار المواد الغذائيّة على وقع توقّعات المستثمرين ونمط جني الأرباح.
فعدد المحلّلين الذين يتوقّعون انحسار الأزمة الاقتصاديّة في البلدان الصناعيّة خلال العام الجاري إلى تزايد. وقد بدأت مؤشّرات كثيرة بالاستقرار فعلاً في الولايات المتّحدة وأوروبا وطبعاً البلدان الناشئة وعلى رأسها الصين، ما يعني أنّ بداية الانتعاش قد تكون في الفصل الأخير. وهذا المعطى يدفع باللاعبين في بورصات السلع إلى المراهنة على تعافٍ مالي نسبي مرتقب.
وعلى سبيل المثال، ارتفعت أسعار الذرة والقمح والصويا إلى أعلى مستوياتها خلال 8 أشهر، وبلغت نسبة الانتعاش 50 في المئة خلال الأسبوع الجاري مقارنة بالأسعار الأدنى المسجّلة في كانون الثاني الماضي، حسبما تفيد صحيفة «Financial Times».
وحتّى لو كان سعر القمح لا يزال يساوي نصف المستوى القياسي المسجّل في العام الماضي، حيث يبلغ 6.5 دولارات للبوشل (0.035 متر مكعب)، غير أنّ معظم المراقبين يرون انتعاشاً قريباً للأسعار مع بدء العلامات الأوليّة للانتعاش الاقتصادي، على اعتبار أنّ الانتعاش المالي بدأ يظهر منذ فترة مع استقرار مؤشّرات الأسهم الأساسيّة عالمياً في الهوامش الإيجابيّة.
ومن هذه المعطيات تنشأ بعض التحذيرات من إمكان ولادة أزمة أسعار جديدة في سوق المواد الغذائيّة. وإذا كانت هذه المسألة غير مؤكّدة في المدى القريب، إلّا أنّ النصف الأوّل للعقد المقبل سيحمل أخباراً سيّئة لسكّان العالم، وتحديداً الفقراء بينهم. فعندها سيكون الاقتصاد العالمي قد أتمّ مرحلة التعافي وبدأ النهوض، وسينتعش الطلب، الذي سيلقى ضغوطاً متزايدة من جانبين. الأوّل هو ارتفاع الحاجات الغذائيّة في البلدان النامية مع ارتفاع مستوى معيشتها. والثاني هو الضغط السكاني عموماً، حيث سيصل عدد السكان قريباً (عام 2012) إلى 7 مليارات نسمة.


حجز الأراضي

البلدان النامية صاحبة الفوائض الماليّة الضخمة تسعى إلى استثمار الأراضي الزراعيّة في البلدان الفقيرة للحفاظ على أمنها الغذائي. ومن بين تلك البلدان السعوديّة وقطر والإمارات في الخليج العربي، وكوريا الجنوبيّة والصين التي حجزت 2.8 مليون هكتار في جمهوريّة الكونغو. وبحسب المعهد الدولي لأبحاث سياسات الغذاء (IFPRI) فإنّ ما بين 15 مليون هكتار و20 مليون هكتار من الأراضي الزراعيّة تمّ التعاقد في شأنها منذ عام 2006، ما يساوي مساحة الأراضي الزراعيّة في فرنسا وخمس الأراضي الزراعيّة في الاتحاد الأوروبي.