لم ينج من الأزمة المالية أحد. الفقراء شأنهم شأن الأغنياء خسروا الكثير من انحسار تحويلات المغتربين وانخفاض الاستثمارات الوافدة بالحدّ الأدنى. وحتّى الدول التي حافظت على استقرار نسبي تعرضت لتآكل غير ظاهر في قيمة أصولها. وفي مؤتمر الأمم المتّحدة المخصّص لمواجهة تداعيات الأزمة، طرح «الفقراء» وجهة نظرهم في عالم تحكمه الذئاب
نيويورك ــ نزار عبود
الأزمة المالية العالمية كانت من نتاج العولمة، غير أنّها أديرت بمؤسسات مالية يعود عهدها إلى ما قبل العولمة. مؤسسات شاخت ولم تتقن التكيّف مع المتغيرات التي تمخضت عن الانتقال من مرحلة العملات النقدية إلى الخانات الرقمية المجرّدة. كذلك فإنّ تلك المؤسّسات عجزت عن التعاطي مع أنظمة هجينة انتقلت من الاشتراكية وهي تمثّل ثقلاً مالياً واقتصادياً هائلاً، كالصين وروسيا، انصهر مع حركة السوق الحرة والنظام الرأسمالي من دون أن يكون له تمثيل فعلي في صناعة القرارات التنظيمية المالية الدولية. وتبع ذلك طبعاً لجوء الرأسمالية إلى حلول اشتراكية في علاج أزماتها النوعيّة.
قمم ومؤتمرات كثيرة عقدت لترميم الهياكل الاقتصادية المتداعية أدت إلى وضع 18 تريليون دولار بين أيدي الحكومات والمؤسسات المالية، ولا تزال الظنون تساور الكثيرين بأنه قد يُضخّ المزيد منها إذا لزم الأمر.
في مؤتمر تمويل التنمية الذي عقد في الدوحة في كانون الأول 2008، فُوّض إلى رئيس الدورة الـ63 للجمعية العامة للأمم المتحدة ميغيل ديسكوتو بروكمان، من نيكاراغوا، عقد قمة عالمية تعالج نتائج الأزمة الراهنة التي وصفت بأنها الأسوأ منذ الكساد العظيم. غير أنّ مساعيه لحشد أكبر عدد ممكن من الزعماء للقمة باءت بالفشل نظراً إلى أن الدول الغنية بقيت تؤمن بأنها وحدها صاحبة القول الفصل، وأن الصداقة بين الخراف والذئاب ستظل من ضروب الأحلام.
قمة مجموعة العشرين التي عقدت في لندن في نيسان الماضي مثّلت 80 في المئة من الاقتصاد العالمي، فيما الدول الأعضاء الأخرى في الأمم المتحدة، وعددها 172، تمثل نسبة 20 في المئة فقط. لذا لم يكن مستغرباً أن تغيب قيادات الدول الغنية عن القمّة الأمميّة التي استمرّت 3 أيّام، وانتهت أمس، ويغيب معها كل الزعماء العرب.
الساحة تُركت لبعض زعامات ورؤساء وزراء الدول الفقيرة لكي يطلقوا نداءات تطالب بمساهمات أكبر لمساعدة الشعوب على تجاوز الأزمة. تلك الشعوب تطالب صندوق النقد الدولي بالخروج من قوالب الحصص إلى مقتضيات العوز ضمن رؤية مختلفة لعالم مهدد بالغرق من دون تمييز.
في مؤتمر نيويورك أعرب الصينيون عن قلقهم البالغ من الوضع المالي للولايات المتحدة التي قدموا إليها قروضاً بقيمة تريليون دولار. وقال وزير خارجية الصين، يانغ جييشي، «توصلنا إلى اتفاق بعد التبصّر إلى أنّه من المهم لنا إبقاء قيمة صرف عملات الاحتياط الرئيسية مستقرة نسبياً وتعزيز دور النظام المالي المتنوع والمعقول. وهذا سيوفر للدول النامية المزيد من الخيارات، ويرفع من قدرتها على تفادي ركوب المخاطر».
من جهتها، قالت المديرة التنفيذية للبنك الدولي، نغوزي أوكونجو إيويلا، إن 84 دولة من أصل 109 دول نامية ستواجه عجوزات غالباً ما ستعجز عن تغطيتها بالاحتياطات المالية التي تحتفظ بها. وإذا ما استمرت الأزمة واستفحلت، فإنها ستؤدي إلى وفاة 200 ألف مولود إضافي سنوياً يموتون حالياً من سوء التغذية والأمراض.
ولكنّ مؤتمر نيويورك لم يتمكن من الخروج بقرارات حاسمة لأنها تحتاج إلى موافقة الدول المشاركة لكي تُنفّذ. لكنه خرج بتوصيات تدعو إلى زيادة مشاركة الدول الأفقر في الهيئات الرقابية بحيث تصبح أقرب إلى مراكز القرارات فيها.
وبقيت الدعوات إلى إيجاد نظم الإنذار المبكر في صندوق النقد الدولي غامضة بعض الشيء. فقد كان من الصعب على الدول الغنية أن تقبل إشراف الدول الفقيرة على كيفية توزيع أموالها. ولم تصغ أيضاً إلى كبار خبرائها الماليين من أمثال جوزف ستيغلتز. فالأخير ترأس ندوة لخبراء آخرين، عقدت على هامش المؤتمر تتعلق بإصلاح النظام النقدي، دعا فيها إلى إنشاء مجلس التنسيق الاقتصادي العالمي الذي يريده أن يتولى معالجة تداعيات أزمة عام 2008 المستمرة.
غير أنّ البيان الختامي الذي وافقت عليه الدول الغنية والفقيرة، لم يرد على ذكر مجلس كهذا. وجلّ ما طالب به هو أن يتحلى صندوق النقد والبنك الدوليين بالمرونة في منح المساعدات، بما في ذلك توزيع مساعدات الحوافز الاقتصادية. ودعا أيضاً إلى تفادي الدخول في أزمة مديونيات جديدة عن طريق تقديم هبات، وإعادة جدولة الديون.
بروكمان الذي ترأس المؤتمر قال إن البشرية مهددة بالخطر، وإن فكرة «سفينة نوح» جديدة لا تنفع، لأنه ليس المطلوب إنقاذ المحظوظين من الطوفان وحدهم، بل المطلوب إنقاذ العالم بأسره. أمر يتفق معه فيه كثيرون، ما عدا من تتضارب مصالحهم مع مصالح الأغلبية. وطالب الدول بأن تتخلى عن الأنانية التي «جعلت الأقلية تحمي نظاماً يعود بالنفع عليها ويلحق الضرر بالغالبية الساحقة من سكان العالم».


ثورة حقيقيّة

مؤتمر نيويورك لن يكون الأخير في ملاحقة سراب الحل للأزمة المالية، إذ يُعقد اجتماع مجموعة الثماني في إيطاليا، وتليه قمة المناخ في نيويورك في أيلول المقبل ذات الصلة، لكون الكثير من شعوب العالم مهددين بالطوفانات والأمراض والتصحّر. ثم هناك قمة مجموعة العشرين في بيتسبرغ قبل نهاية السنة. والكثيرون يرون أن الأزمة الاستثنائية لا تقبل الحل بوسائل تقليدية. فالمطلوب بات ثورة حقيقية في النظام الاقتصادي العالمي تعيد رسم القواعد على أسس جديدة، عمليّة تبدأ مع بدء إصدار حقوق السحب الخاصة من قبل صندوق النقد الدولي.