على سكّة الركود ينطلق قطار الرفاهيّة! قد يكون هذا التوصيف هو الأكثر تناقضاً في ما يتعلّق بالمؤشّرات الاقتصاديّة والمعادلات الرياضيّة. لكن بوجود حكومة مركزيّة تسعى إلى تنويع روافع اقتصادها، تبدو الصين اليوم مؤهّلة لإطلاق شعلة المجتمع الاستهلاكي الواسع، مستغلّة موجة التباطؤ العالميّة. استغلال يجري عند مستوى آخر في الولايات المتّحدة
حسن شقراني
لعلّ أبرز ما طرحه الرئيس باراك أوباما على صعيد تطوير اقتصاد بلاده منذ تولّيه القيادة في البيت الأبيض في بداية العام الجاري، هو محاولة تحويل الأزمة إلى فرصة لـ«التغيير». فالركود الاقتصادي الذي بدأ في الولايات المتّحدة منذ كانون الأوّل من عام 2007 وأدّى إلى ارتفاع معدّل البطالة إلى 8.9 في المئة، لا يمكن مواجهته إلا من خلال السياسات الماليّة والاقتصاديّة الذكيّة، مع تكبّل الأوضاع في أسواق الائتمان وصعوبة الحصول على القروض اللازمة لإطلاق المشاريع الاستثماريّة وحتّى الاستهلاك.
مفاهيم الرئيس الديموقراطي تقدّمية على اعتبار أنّها ترسي قطيعة مع نهج الإدارة المحافظة السابقة التي اعتمدت في إدارة الاقتصاد على «جوانب العرض» من خلال خفض الضرائب على الشركات لتحفيز الأخيرة على الاستثمار ورفع مستوى التشغيل. فأوباما يتحدّث الآن عن تحفيز مختلف كمّاً ونوعاً من خلال مشاريع البنى التحتيّة وتطوير المرافق العامّة، إضافة إلى الإعفاءات الضريبيّة للأفراد، حيث يمثّل الاستهلاك أكثر من 65 في المئة من نشاط أكبر اقتصاد في العالم.
ولفعل ذلك طُرحت خطّة الـ787 مليار دولار. خطّة ستولّد عجزاً مالياً، إلّا أنّ فوائدها تقاس بالمعايير الاستراتيجيّة (تجديد أميركا، خفض الاعتماد على نفط الخارج، الاستثمار في الطاقة المتجدّدة...)، وتحوي مشاريع طموحة. لكن حتّى مع هدوء عاصفة الركود نسبياً في هذه المرحلة، وتوقّع تمظهر نتائج الخطّة في الفترات اللاحقة، تبقى أميركا في ركود، وتحديداً في ما يتعلّق بأسواق العمل، في السنوات الخمس اللاحقة، وفقاً للاقتصادي الحائز جائزة «نوبل»، بول كروغمان.
والمجتمع الاستهلاكي الواسع الذي بدأ مراحل تطوّره الحديثة بعد الحرب العالميّة الثانية، يشهد منذ بداية الفصل الأوّل من العام الجاري، الذي تقلّص فيه الاقتصاد بنسبة 6.1 في المئة، موجة جماعيّة للادخار وتوفير الأموال للأيّام السوداء ربّما. هذا الادخار كان غائباً في «أميركا ـــــ الإنفاق الائتماني المجنون»، بينما كان موجوداً بقوّة في محرّك العولمة حالياً ومستقبلياً: الصين.
مؤشّرات كثيرة ظهرت في الفترة الأخيرة على بدء نوع من الانتعاش النسبي في ثالث أكبر اقتصاد في العالم. وعلى رأسها تحسّن مؤشّر ثقة مديري المشتريات في الشركات الذي سجّل أرقاماً إيجابيّة في نيسان وآذار الماضيين. وحتّى إذا حمل نيسان خبراً سيّئاً في الوقت نفسه، وهو هبوط الصادرات بنسبة 22.5 في المئة على أساس سنوي، إلّا أنّ تقويم التقدّم في البلد الشيوعي يجب أن يكون من منظور مختلف، وهو منظور السلطات في بكين.
فمع تراجع التجارة الدوليّة بسبب التباطؤ العالمي، يسعى البلد الشيوعي إلى تحفيز الطلب الداخلي، وبالتالي خفض اعتماد مصانعه وشركاته المختلفة على الأسواق المتقلّبة في البلدان المتطوّرة. ومن بين الإجراءات لفعل ذلك، خطّة التحفيز الاقتصادي التي تبلغ قميتها 586 مليار دولار، والتي أُعلنت في نهاية العام الماضي.
لكن ما يلفت أكثر في هذا السياق، هو ما أعلنته السلطات أمس. فهي شجّعت المواطنين على شراء السلع الاستهلاكيّة من خلال منحهم حسماً بنسبة 10 في المئة على الأسعار إذا أحضروا مقابل السلعة الجديدة السلعة القديمة بهدف إعادة تصنيعها.
وهذا البرنامج المثير هو تابع لبرنامج أُعلن سابقاً لتحفيز المواطنين القرويّين على شراء السلع الإلكترونيّة. غير أنّه أكثر تطوّراً لأنّه يستهدف الآن المواطنين في المدن والمحافظات الكبرى، مثل العاصمة الاقتصاديّة شانغهاي وبكين وغوانغدونغ، حيث يرتفع مستوى المعرفة وتصبح شبكات المتاجر أكثر تطوّراً وحرفيّة واطلاعاً.
كذلك تأتي هذه التدابير في إطار رزمة عامّة لتحفيز الطلب الداخلي التي نتج منها في بداية العام الجاري تحفيز شراء السيّارات عبر خفض الضرائب. وأدّى ذلك إلى ارتفاع عدد السيّارت المبيعة في آذار الماضي إلى مستوى قياسي بلغ 1.15 مليون سيّارة، متجاوزاً المستوى المسجّل في الولايات المتّحدة للشهر الثالث على التوالي.
فالحكومة الصينيّة تؤمن مثلما يفترض معظم الاقتصاديّين بأنّ حاجتها الآن تكمن في توسيع الطلب الداخلي الذي يمكن أن يصبح هائلاً جداً. ومثلما كان الطلب هائلاً على السلع الاستهلاكيّة الخفيفة في الولايات المتّحدة خلال «الأيّام الذهبيّة»، بدأت موجة ازدهار مبيعات الأدوات المنزليّة والملابس والأحذية والمفروشات في الصين. فقطاع الصناعات الخفيفة يوظّف أكثر من 35 مليون شخص، ولا يمكن إدارة هو جينتاو أن تربطه كلياً بالخارج وبمعدّل الصادرات، وهي بذلك تحقّق هدفاً آخر هو رفع مستوى رفاهيّة شعبها.


لا شعور بالرضى

الاقتصاد العالمي قد يسوء أكثر، والطلب الاستهلاكي ليس من المحتمل أن يتعافى ليصبح قوياً مثلما كان. هذا التحذير أطلقه النائب الأوّل لمدير صندوق النقد الدولي، جون ليبسكي أمس. فالصندوق لا يزال قلقاً من «المخاطر النزوليّة... والوقت الآن ليس للشعور بالرضى على الإطلاق». ويمكن رصد المخاطر في اليابان حيث أفق التعافي مرتبطة بالأسواق الخارجيّة، نظراً لاعتماد أكبر اقتصاد آسيوي على الصادرات، فيما الطلب الاستهلاكي في الولايات المتّحدة قد لا يتعافى بالدرجة الكافية. على أن تشهد البلدان النامية انتعاشاً قبل العالم الصناعي.