قد يكون مستحيلاً على أيّ مؤسّسة حول العالم تجنّب تداعيات الركود، نظراً للارتباط الكثيف الذي تفرضه العولمة بين القطاعات الاقتصاديّة المختلفة في جميع البلدان. وفي قطاع الإعلام، وتحديداً الصحف، تزداد صعوبة احتواء ارتفاع الأكلاف، وتبرز الحاجة إلى إبداع من نوع آخر أو إلى وصفة سحريّة تنقل التكنولوجيا من حالة العداوة إلى مصدر للقوّة
حسن شقراني
أدّى التطوّر التكنولوجي وما نتج منه من سهولة نقل المعلومات وتوافرها، إلى ركود حقيقي في أعمال الصحف. ففي هذا القطاع الأمور معقّدة أساساً لأنّ المسألة تفترض كشف حقائق وتقديم وجهات نظر، وفي الوقت نفسه تحقيق أرباح. والتباطؤ العالمي الذي أطاح شركات من عالم المال إلى عالم التصنيع أبرز أهميّة سعي الصحف حول العالم إلى استراتيجيّة مدروسة لمواجهة المنافسة المرتفعة، إن في الأسواق التقليديّة عبر النسخ الورقيّة أو في عالم الإنترنت. تلك الاستراتيجية يجب أن تتمتّع بمستوى مرتفع من الإبداع لأنّ هامش المناورة في هذا المجال ضيّق جداً، والعائدات يجب «عصرها» بدقّة وتحديد قنوات صرفها بحساسيّة لتحقيق الجدوى القصوى من الخيارات المعتمدة.
أحد الخيارات الذي يمكن أن تلجأ إليها الصحف لتمتين عائداتها هو تحويل غريمها «التقليدي ـــــ الحديث»، الإنترنت، إلى مصدر قوّة، وفي الوقت نفسه المحافظة على «نوعيّة» مادّتها المطروحة. هذه ببساطة رؤية العديد من المحلّلين التقدّميين في شرح تطوّر الصحافة المكتوبة وانتقالها إلى المستوى الآخر. وهي رؤية يشدّد على أهميّتها الرئيس التنفيذي لعملاق الشبكة الإلكترونيّة الكونيّة، «Google»، إيريك شميدت.
ففي هذه الأوقات الاقتصاديّة الصعبة هناك إحداثيّات عديدة يجب أن تتنبّه إليها المؤسّسات المعنيّة، أهمّها أنّ «الناس يحصلون على المعلومات التي يحتاجون إليها من مصادر مختلفة... ويبحثون عن الخدمة المثاليّة»، بحسب شميدت الذي تحدّث عن طموحات شركته في مقابلة مع صحيفة «Financial Times». فالمهمّ في مواجهة الركود والتحدّيات التكنولوجيّة هو اكتشاف طرق جديدة للإعلان «لخلق نوع من الحيويّة».
ولكن لا يمكن ربط المفاهيم كلياً بالتطبيقات عند هذا الحيّز، فالحديث عن ضرورة الابتكار لا يعني أنّ المسألة سهلة وتفترض رؤية تسويقيّة محدّدة. فتطوير المحفّزات التجاريّة للصحافة المكتوبة أصبح مستهلكاً، وربّما استُنفدت الأدوات التقنيّة أو النفسيّة أو حتّى السياسيّة لحثّ المواطن على شراء الخدمة أو المادّة أو ما شابه، وبالتالي، حثّ الشركات على الترويج لمنتجاتها (الأمر يختلف بالنسبة إلى مجلّات وصحف «الترويج السياسي» لاعتبارات عديدة).
ويمكن بالحدّ الأدنى تفنيد قدرة الشركات على الابتكار في مضمارين. الأوّل يقضي باعتماد نموذج الإعلانات من أجل تحقيق العائدات. وهنا الإعلان يكون في النسخ الورقيّة وعلى المواقع الإلكترونيّة للصحف المختلفة. والثاني يفترض نموذج الدفع مقابل خدمة الأخبار. وبما أنّ النسخ الورقيّة أساساً لها سعرها، يبقى أن يُحدّد سعر تصفّح النسخة الإلكتروينّة.
شميدت يرى أنّ بإمكان الشركات أن تلجأ إلى «تعرفة القراءة»، غير أنّ معظم «المستهلكين» يفضّل النماذج الإعلانيّة، مع وجود موادّ محدّدة خاضعة للتعرفة، مثل المقالات المميزة، «أو الرفيعة المستوى» أو مواد المجلّات. ولكن بالنسبة إلى الأخبار اليوميّة التي يلاحقها الناس «فأعتقد أنّ النموذج القائم حالياً على الإعلانات (كمردود) هو الأفضل».
ولهذا تسعى «Google» إلى إطلاق موجة ثوريّة جديدة من عمل الصحف الإلكترونيّة عبر مدّها بمقوّمات تتناسب مع نكهة التكنولوجيا. وعلى سبيل المثال يتحدّث شميدت عن إمكان إيجاد تطبيقات جديدة على موقع الصحف مثل تمكين المتصّفح من مراجعة أرشيف قراءاته (Customized History). وهذه الطروحات تُبحث مع عمالقة القطاع في الولايات المتّحدة مثل «Washington Post».
وعمليّة التطوير عبر «الأدوات الإبداعيّة» يجب أن تكون سريعة لأنّ الخسائر تتراكم وموجة تسريح كتّاب تلك «المقالات ذات المستوى العالي» التي يشير إليها شميدت وتعدّ أساسيّة لنجاح استراتيجيّة شركته، تتفاقم. وعلى سبيل المثال فإنّ عائدات الإعلانات في صحيفة «New York Times» تراجعت بنسبة 27 في المئة في الربع الأوّل من العام الجاري، وتلجأ الشركة المالكة لها، «The Boston Globe»، إلى خفض الأكلاف عبر خفض رواتب الموظّفين بنسبة 5 في المئة.
كما تجدر الإشارة إلى أنّ 17 صحيفة أميركية، بينها «Herald Tribune»، خسرت نحو 75 مليون دولار في الفترة المذكورة.
وقد تختلف أنماط الأعمال جذرياً بين بلد وآخر، حيث إنّ المشاكل التي تمرّ بها صحيفة نيويورك العتيدة، تقابلها «أوضاع عاديّة» في بلدان أخرى. ولكن لمواكبة تطوير الأعمال في هذا القطاع، لا ينفكّ تحقيق الأرباح فيه يصعب، يجب رصد التطوّرات في مركز العولمة. «Google» الأميركيّة تطرح الرؤية الثوريّة القائمة على «الولوج الهائل»، ولا يمانع شميدت من تشارك ثمار أبحاث شركته مع العالم. لأنّ المعرفة تجرّ ازدهاراً.


حركة المرور

في تعليق على بعض الدعوات التي ظهرات أخيراً وتفيد بإيجابيّة تحوّل الصحف إلى «مؤسّسات غير ربحيّة»، يتحدّث إيريك شميدت عن صعوبة كبيرة لأنّ أساس تلك العمليّة هو وجود «أشخاص أثرياء وكرماء في قلبها»، وليس من المحتمل تأمين ذلك. ويشير إلى أنّ الصحف التي تطوّرت فيما كانت العائدات الكبيرة تأتي من الإعلانات المبوّبة والإعلانات المطبوعة الكبيرة، ستشهد موجة إفلاسات كبيرة إذا اعتمدت هذا الخيار. لذا فإنّ الحال هي استغلال التكنولوجيا ورفع مستوى العائدات عبر تضخيم «حركة المرور» على الإنترنت.