بالنسبة إلى دايفيد هارفي، ما يمرّ به العالم منذ الخريف من اضطرابات اقتصاديّة وماليّة ليس سوى حلقة جديدة من أزمات الرأسماليّة التي سبق أن ظهرت في عامي 1997 و2001 على سبيل المثال. فالأزمات دوريّة في هذا النظام، وحتّى حيويّة لـ«تطوّره»، وفي ذلك استعادة لكارل ماركس بروح حديثة طرحها الأستاذ النيويوركي في محاضرة ألقاها في الـ«AUB»
حسن شقراني
هناك ميزة لافتة تجعل الرأسمالي مختلفاً. فهو يخرج صباحاً بحوزته مبلغ من المال، يوظّفه، ومن ثمّ يعود في المساء مع مبلغ أكبر من المبلغ الأساسي. والمبلغ الجديد لن يُستخدم «للتمتع بوقت جميل مثلما كنّا نفعل نحن»، بل يصبح «مبلغاً أولياً» في اليوم التالي. وإن لم يتوجّه الرأسمالي إلى السوق مجدّداً، فإنّه سيفقد صفته وستطيحه قوانين المنافسة. هذا التوصيف بالأسلوب المبسّط البعيد عن تعقيدات «وول ستريت» ورؤوس الأموال العابرة للقارّات، يطرحه عالم الجغرافيا الماركسي، دايفيد هارفي، في محاضرته عن «الجذور الحضريّة للأزمة الماليّة» التي ألقاها في الجامعة الأميركيّة في بيروت يوم الجمعة الماضي. الهدف هو تأكيد أنّ النظام الرأسمالي قائم على النموّ المطّرد، وإلّا دخل في أزمة. وحتّى في كنف النموّ تنشأ الأزمات، وفي علاج تلك الأزمات تكمن بذور أزمات لاحقة. وهكذا دواليك. معمعة من عدم الاستقرار والأرباح المؤقّتة.
اعتماد الرأسماليّة على النموّ، مسألة طبيعيّة، فأيّ تشكيلة اقتصاديّة اجتماعيّة في العالم مهما كان نوع إدارتها تعتمد حتمياً على زيادة حجم ونوعية السلع والخدمات المنتجة سنوياً لمقابلة تطوّر حجم السكّان ومقابلة التطوّر الذي يفرضه العصر. لكن حين يصبح النموّ عمليّة صعبة يحدّها حجم الأسواق ومستوى المنافسة وتراجع المداخيل (الجوانب الحقيقيّة لعمليّة الإنتاج والتطوّر) يصبح إيجاد «القطاع الذهبي» عمليّة ضروريّة.
فاقتصاد الولايات المتّحدة الذي كان قد بدأ يزدهر مع بدايات القرن العشرين اصطدم بأزمة الأسواق الماليّة (بدأت في «الاثنين الأسود») في عام 1929. وفي سبيل مواجهة الكساد العظيم الذي نشأ من تلك الأزمة، لجأ الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت في عام 1933 إلى «الاتفاق الجديد» الذي خلق قطاعات جديدة وواجه البطالة من خلال الإنفاق العام عبر العجز. لكن هذه العمليّة غير صحيّة، بحسب هارفي، ولم تتمكّن الولايات المتّحدة من الخروج منها إلا عبر الحرب العالميّة الثانية.
وبعد ذلك عاش المجتمع الأميركي السنوات الذهبيّة في الخمسينيّات والستينيات معتمداً على النفط الرخيص. لكنّ نموّ الطلب والإنتاج وصل إلى حائط مسدود مع تراجع الربحيّة في ظلّ ازدياد المنافسة بين الشركات. واقع أدّى إلى نشوء القطاع الماليّ وازدهاره بأدواته المعقّدة، وتحديداً المشتقّات (Derivatives).
هذه العمليّة (وهو يصفها بأنّها «Ponzi Scheme» أي كتلة ماليّة وهميّة قائمة على الاستدانة المستمرّة) انطلقت في بداية تسعينيّات القرن الماضي، حيث يشدّد هارفي على أنّ الخلل نشأ عندما لجأ الناس إلى الاستثمار بقوّة في الأسواق الماليّة، لأنّ ذلك التحوّل فرّغ رؤوس الأموال من الجوانب الاقتصاديّة الحقيقيّة (صناعة الفولاذ والإلكترونيّات والسيّارات حتّى) وحوّلها نحو القطاع المالي. واستمرّ هذا النمط إلى حين انفجار فقاعة الرهون العقاريّة في صيف عام 2007.
فبعد أزمة الادخار والاستثمار في ثمانينيّات القرن الماضي، التي كلّفت أكثر من 160 مليار دولار (دفعت الحكومة الأميركيّة نحو 125 مليار دولار منها) دخلت الولايات المتّحدة، مركز الرأسماليّة، مرحلة ركود، لم تخرج منه إلا مع انطلاق «الفقاعة الماليّة» التي غذّتها الأموال الخليجيّة، وتحديداً السعوديّة. وهارفي يشدّد هنا، مقتبساً عن كتب عديدة، أمام جمهور الطلّاب والصحافيّين والأكاديميّين على أنّه كان هناك تهديد أميركي مباشر للمملكة السعوديّة يحذّرها من أنّه إذا لم يجرِ إمرار البترودولارات في «وول ستريت» (حيث السوق الماليّة الأميركيّة) فإنّ «الكلفة ستكون عالية».
وهكذا توافرت الرافعة للولايات المتّحدة بعد انتهاء الحرب الباردة، ومضى الرئيس بيل كلينتون ناجحاً بشعار «إنّه الاقتصاد يا غبي» ممتطياً حصان الأسواق الماليّة. لكن خلال تلك الفترة، وحتّى قبل بدئها بكثير، كانت الأزمات تنشأ في مختلف أنحاء العالم الرأسمالي. وفي عام 1997 ظهرت الأزمة الماليّة في جنوب شرق آسيا التي ارتدّت على روسيا في عام 1998. أمّا في عام 2001، فقد بانت انعكاسات أزمة انفجار فقاعة قطاع التكنولوجيا (Dot Com Bubble).
وبعد ذلك بست سنوات طبعاً، ظهرت أزمة الرهون العقاريّة، وبانت منذ نهاية عام 2008، انعكاساتها على الاقتصاد الحقيقي، حيث بدأت موجة ركود توصف بأنّها الأقسى على البلدان الصناعيّة منذ الحرب العالميّة الثانية.
دورة رأسماليّة بامتياز نشأت مع تراجع مقوّمات الاقتصاد الحقيقي في مركز النظام الرأسمالي، الولايات المتّحدة، لنراها الآن أزمة ماليّة تضرب أيضاً تلك المقوّمات وترفع معدّلات البطالة.


أنماط العيش

وفقاً للحسابات التي استند إليها دايفيد هارفي، فإنّ ناتج الرأسماليّة نما بمعدّل 2.5 في المئة سنوياً منذ عام 1750، والنظام اعتمد على ذلك النموّ، الذي تمّ تحت جناح الإمبرياليّة والمذهب التوسّعي ثمّ اتخذ العولمة غطاءً، لتخطّي الأزمات الدوليّة. لكن ماذا عن العلاج الجذري؟ يقول هارفي إنّه لم يتسنّ له بعد بلورة رؤيته الكاملة. ليس اشتراكيّة كونيّة، بل دعوة إلى تغيير أنماط العيش من مناظير مختلفة. لكن «هؤلاء الأميركيّين لا يريدون تغيير نمط حياتهم... يريدون خفض الاعتماد على النفط والحفاظ على البيئة، لكن لا يريدون تطوير شكل عيشهم».