أقرّ زعماء دول مجموعة العشرين (G20) في قمّتهم، أمس، 6 نقاط اعتبروها أساسيّة لانبثاق «نظام عالمي جديد» من رحم الأزمة الماليّة العالميّة. أهمّها دعم صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وتحفيز التجارة الدوليّة، وإطلاق «عمليّة عميقة» لتنظيف محافظ المصارف وتعزيز الشفافيّة ليبدو أنّ الجميع خرج «راضياً»!
لندن ــ بسّام الطيارة
مؤشرات عديدة سبقت إعلان نتائج قمة مجموعة الدول العشرين الكبرى التي استضافتها العاصمة البريطانيّة، أمس، بعد «تحضيرات امتّدت أشهراً». ورغم هذا، فقد استحال الاتفاق بين الزعماء الذين اجتمعوا في مركز «Excel» للمؤتمرات قبل أن يخرجوا، متأخرين حوالى الساعة، بنتائج أصرّ عدد من الزعماء على عرضها شخصياً في مؤتمرات صحافيّة متفرقة.
وقد كشف أحد أعضاء وفد أوروبي لـ«الأخبار» أنّ «التوافق كان غائباً حتى قبل نصف ساعة» وهو ما كان قد تسرّب من وراء الكواليس خلال دقائق الانتظار الطويلة.
ويمكن القول إن معظم المقررات التي خرجت بها القمة كانت قد بدأت تدور في الأروقة منذ ساعات الظهيرة، إلا أن الجميع انتظر التفاصيل على أساس أن «الشيطان يكمن في التفاصيل»، وبحسب قراءة أولية، فإن طروحات فرنسا وألمانيا خرجت منتصرة من هذ القمة، إذ إن مبادئ إصلاح النظام المالي العالمي وضبطه كان لها حصة الأسد، بينما غابت طروحات إطلاق عملية تحفيز اقتصادي لمنع الركود التي نادى بها «الأنكلوساكسونيّون»، وهو ما كان متوقعاً أن يطالب به الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى جانب رئيس الوزراء البريطاني، المضيف، غوردون بروان.
ورأى أكثر من مراقب في ذلك إشارة «ضعف لدى الولايات المتحدة»، واتفق البعض على أن واشنطن لن «تتحرك منفردة» حسبما تخوّف البعض، وفي طليعتهم الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي هدّد علناً قبل يومين بالانسحاب من القمة.
ولكن الجميع خرج راضياً من قمّة «التسوية التاريخية لأزمة استثنائية» على حدّ تعبير المستشارة الألمانيّة أنجيلا ميركل. فساركوزي قال إنّها «أكثر مما كان يمكن أن نتخيل»، ورأى بعض المراقبين في هذين الإعلانين انتصاراً لطروحات «يعقوبيّة أوروبا القديمة» على «طروحات السوق الحرة الليبرالية الأنكلوساكسونية».
من جهته، شدّد رئيس صندوق النقد الدولي دومينيك شتراوس ـــــ كان على أهميّة القمّة لأنّها أنتجت «أكبر خطة نهوض اقتصادي موحّدة على الإطلاق». وقد نقلت وكالة «فرانس برس» عن مسؤول أميركي قوله: «في الإجمال نحن سعداء» فالقمّة خرجت بإنجاز «لافت»، فيما رأى الرئيس الروسي، ديميتري ميدفيديف، أنّ مقرّرات القمّة تشكّل «خطوة إلى الأمام» على طريق التعافي الاقتصادي، وأنه حذّر في الوقت نفسه من أنّ هذه الإجراءات لن تحلّ كلّ المشاكل.
ووصف «المضيف»، براون، نتائج القمّة بأنّها «توافق جديد» يمهّد لإنشاء «نظام عالمي جديد» قائم على الرقابة والالتزام بالنموّ وخلق الوظائف، مشيراً إلى أنّه بحلول عام 2010 ستكون بلدان المجموعة المسؤولة عن 85 في المئة من الناتج الإجمالي العالمي قد أنفقت 5 تريليونات دولار لتحفيز الاقتصاد الكوني (تمّ التعهّد حتّى الآن بتريليوني دولار من البلدان المعنيّة).
وعموماً، يمكن القول إنّ نتائج هذه القمة تعتبر «المدماك الأول» لاتفاقيّة «Bretton Woods» جديدة، وهو ما أكّده ساركوزي في مطلع مؤتمره الصحافي، إذ إن معظم المقررات تشير إلى توجّه نحو تشديد الرقابة على النظام المالي الذي وصفه أكثر من زعيم بأنه «متهالك» وبأنه بحاجة ماسّة لضبط ومراقبة.

سلاح صندوق النقد

وفي البيان الختامي، أوضح براون أنّ القمة قررت مضاعفة موارد صندوق النقد الدولي 3 أضعاف، عبر مدّه بمبلغ 500 مليار دولار عبارة عن أموال «جديدة». كذلك تقرّر دعم حقوق السحب الخاصّة (SDR) بـ250 مليار دولار، إضافة إلى تمكين الصندوق من تسييل احتياطه من الذهب لمساعدة الدول الأكثر فقراً.
وتقرّر أيضاً، وإن لم يعلن عنه بصورة نهائية، فتح باب انضمام الصين والمكسيك والهند والبرازيل إلى الصندوق مع زيادة حقوقهم في عمليّات التصويت في مجالس إدارته.
وفي ما يتعلّق بالتجارة الدوليّة ومواجهة «الحمائيّة الخطرة» قرّر الزعماء تخصيص 250 مليار دولار لدعمها عبر البنك الدولي والمؤسّسات الدوليّة المعنيّة.
أمّا بالنسبة إلى الجنّات الضريبيّة، فقد تقرّر وضع «ثلاث لوائح»: الأولى بيضاء وتحوي أسماء الدول التي تتعاون بصورة شفافة وكاملة في ما يتعلق بمنع تبيض الأموال والتهرّب الضريبي والتي وقّعت اتفاقات مع ١٢ دولة على الأقل من دول التجمع المالي، ولائحة رمادية للدول التي «لا تتعاون بصورة كافية» في هذا المجال. أما اللائحة الأخيرة فهي «لائحة سوداء» تضم الدول التي تتمنّع عن التعاون في هذا المجال وتشكل مصارفها ملاجئ للمتهربين من دفع الضرائب وللثروات غير المشروعة.
وقد تسرّب من داخل قاعة المفاوضات أن جدالاً قاسياً دار بين الصين، التي ترفض مبدأ التدخل في الشؤون الداخلية للدول وخصوصاً أنّ هونغ كونغ وسنغافورة «مستهدفتان»، والاتحاد الأوروبي الذي جعل من محاربة الجنّات الضريبية هدفاً أساسياً له.
وبحسب مصادر تحدّثت إلى «الأخبار»، فإنّ «التوافق الفرنسي الصيني حصل عشيّة القمة»، ما سمح بسهولة تمكّن الوصول إلى حلّ بين ساركوزي ونظيره الصيني هو جينتاو. و«الكلمة الرقيقة» التي ذكر فيها ساركوزي أن «الصين واحدة لا تتجزأ وأن التيبت هي مقاطعة صينية لا تطالب بالانفصال» قد رطّبت الأجواء كثيراً، وخصوصاً أنّ بكّين قرّرت مقاطعة باريس منذ استقبل قصر الإليزيه الزعيم البوذي، الدالاي لاما.

الصناديق القذرة

وفي ما يخصّ بـ«الصناديق الاستثماريّة» ذات المحافظ المليئة بـ«الأوراق القذرة» (وهي مركّبات ماليّة معقّدة انتشرت في النظام المالي وسمّمته بسبب فقدان الرقابة)، فقد أشار بعض الخبراء إلى أن قيمتها الحاليّة تبلغ «١٢٠٠ مليار دولار» وهي المرة الأولى التي تُعلن فيها «بشكل شبه رسمي» القيمة الإجمالية لما يشكل «التهديد المقبل» للنظام المالي بحسب بعض الخبراء.
كذلك تقرّر وجوب أن تعلن كل مؤسّسة قيمة ما تملكه من أوراق ماليّة مسمّمة وأن يتم تسجيلها في مؤسسة وطنية ترتبط بمؤسسات إقليمية بشكل يمكن حصر شبكتها في الأسواق، وسيفرض على هذه المؤسسات معايير «شفافية تامة على كل معاملاتها، مع تعهّد بضمان قسم من موجوداتها بشكل عيني».
أما بالنسبة إلى مؤسّسات المضاربات المالية والنقدية، فقد تقرر «جعل المخاطرة صعبة» ودفع العاملين في هذا المضمار إلى «ضمان حد أدنى من قيمة مخاطراتهم» عبر صندوق احتياط ثابت لكل مؤسسة وبتدفيع العاملين والمسؤولين عنهم مقابل خسائر المؤسسات عندما تكون نتيجة قرارات خاطئة «أو شديدة المغامرة».
كذلك تقرر وضع ميثاق شرف لمكاتب ومصارف «التقويم» (وكالات التصنيف الائتماني مثل «Moody’s» و«S&P») بحيث يقود هذا إلى المزيد من الشفافية ووضع حد لـ«المزج بين التقويم والاستثمار».

محاسبة جديدة

وقرر زعماء الـ«G20» العمل على إنتاج نظام محاسبة جديد بالنسبة إلى تقويم الموجودات وتدوينها في محاسبة الشركات بحيث تعكس الميزانيات السنوية «حقيقة قيمة الشركات والمصارف» مع العمل على وضع «حدود معقولة لعمليات التوريق» مع ضبطها بشكل ممنهج وواضح وإيجاد آلية لـ«اقتفاء آثارها» في المعاملات الدولية بين المصارف والمؤسسات المالية مع وضع «ضمان مالي» لكل عملية توريق.
وعلمت «الأخبار» أن فرنسا وألمانيا طالبتا بأن يكون الحد الأدنى للضمان بحدود ١٠ في المئة، إلا أن تمنّع بعض الدول وخصوصاً بريطانيا والولايات المتحدة يمكن أن يقود إلى الاكتفاء بـ٥ في المئة، وبحسب أحد المشاركين فإنّ «المبدأ قد أقرّ».
وبالنسبة إلى تقويم موجودات المصارف، اتفق الزعماء على إيجاد «قواعد متناسقة» في تقويم موجودات المصارف ورساميلها المدفوعة «حسب قواعد دولية عامة» والتوجه نحو الأخذ بقيمة المطلوب المصنّف خارج الميزانية لقياس الرأسمال بما يمكن أن يعكس صورة أكثر دقة للوضع المالي للمؤسسات.

قمّة التقويم

وأعلن المؤتمرون عن قمة جديدة تعقد خلال دورة الأمم المتحدة في أيلول المقبل في نيويورك. وقال ساركوزي في مؤتمره الصحافي إنّ قمة «G20» التي استضافها الرئيس الأميركي السابق جورج بوش في تشرين الثاني الماضي «وضعت القواعد، بينما قمة لندن باشرت بالتطبيق، أما قمة نيويورك فسوف تكون لتقويم العمل».


الالتزام بالتعافي

شدّد الرئيس الأميركي، باراك أوباما، في المؤتمر الصحافي الذي عقده بعد القمّة، على ضرورة مساعدة البلدان الفقيرة التي تأثّرت كثيراً من جرّاء الأزمة الماليّة العالميّة. وأوضح أنّه سيطرح على الكونغرس خلال الأيّام المقبلة تبنّي منح تلك البلدان أكثر من 400 مليون دولار لمساعدته. وفيما كان أوباما يتحدّث عن «الالتزام بالتعافي الاقتصادي والنموّ وخلق الوظائف» استمرّ مؤشّر «DOW JONES» بتسجيل النتائج الطيّبة، إذ تجاوز حاجز الـ8 آلاف نقطة، بعدما كانت البورصات الأوروبيّة قد أقفلت جميعها على ارتفاع. واللافت هو أنّ تلك الأسواق انتعشت رغم «تدابير الرقابة» الجديدة وتأكيد أوباما على أنّه في «النظام الجديد» لن تتكرّر أزمة الفقاعات.