الأزمة الاقتصاديّة ـــ الماليّة التي تعصف بالعالم ليست عابرة على الإطلاق. بل على العكس هي بنيوية بكل معنى الكلمة. غير أنّها ليست أزمة للرأسماليّة إلّا من حيث إنّها أدت إلى تجميد المفهوم الرأسمالي بتخلّي الدولة عن أداء أي دور تشريعي أو رقابي أو تنظيمي للمنظومة المالية القائمة. منظومة تخضع الآن لإعادة هيكلة في ظلّ عولمة تفرض «انغماس الجميع»
حسن خليل*
ليس صحيحاً تشبيه الأزمة الاقتصاديّة الحاليّة بتلك التي ضربت الرأسماليّة في عام 1929 وأطلقت موجة الكساد العظيم، فالأخيرة كانت أزمة محلية أميركية ولم يكن العالم في نظام عولمة، ما يجعل الأزمة الحالية أكبر وأخطر بأضعاف. وبالعودة إلى الجذور يمكن القول إنّ أزمة الرهن العقاري، التي بدأت تتمظهر في الولايات المتّحدة في صيف عام 2007، كانت نقطة الماء التي أفاضت الكوب. ولكن كل المنتجات المالية (Financial Products) والممارسة المصرفية، التي قامت على الإقراض المفرط (Leveraging) بغرض جني المكافآت السنوية للمديرين، كانت الأساس في وقوع الأزمة. وتبدو المقارنة بأزمة اليابان بين عامي 1993 و1998 أساسيّة من حيث النوع، في ظلّ مضاعفة الحجم.
وبالنتيجة فإنّ موجة الركود لن تنتهي قبل عام أو عامين. ويبدو مفيداً جداً في هذه الأوقات الصعبة، تحديد تداعيات تلك الأزمة، من حيث تأثيرها على المذهب الاقتصادي الطاغي، وإعادة هيكلتها لأحكام السوق.
القيود كرّست الأزمة بعض المفاهيم من شاكلة أنّ «الحكومات تتآمر على اقتصاداتها» من خلال تأمين مصالح الشركات الكبرى لا حماية المواطنين. هذه المسألة ليست دقيقة، بمعنى أنّ شعبية السياسيين تتكرّس في العهود الاقتصاديّة الجيدة، وعامل الحظ هنا رئيسي. فعهد جورج بوش الأب جناه بيل كلينتون، وباراك أوباما يعاني ما خلّفه جورج بوش الابن. ولكن هنا لا يمكن التغاضي عن واقع أنّ الحكومات الغربية سعت ونجحت في إلغاء جميع القيود على الأنظمة والممارسات المصرفية والمالية، فهي ألغت كل القيود على المصارف الاستثمارية، ما دفع المصارف التجاريّة الكبيرة إلى تملّكها للهروب من النسب الماليّة المفروضة. ونما الإقراض الورمي الهرمي بحدود تفوق كل توقعات السياسيين في العالم. بكلام آخر، الحكومات والشركات والأفراد كانوا شركاء في الفساد المالي «الشرعي». وبالتالي يمكن التأكيد أنّ مذهب النيوليبراليّة انتهى في المدى المنظور، ولا خيار بعد اليوم إلا لتدخل الدولة المباشر في إعادة الثقة إلى النظام النقدي والمصرفي، وهذا الأمر سيستغرق سنوات كما حصل في اليابان. ولكن في ضوء غياب البديل عن الرأسمالية، ستتحوّل النيوليبرالية إلى نظام قد يسمّى «الرأسمالية الاشتراكية» أو «الاشتراكية الرأسمالية».

تبعات تقنيّة

وعموماً يمكن تحديد تداعيات الأزمة، بالمحاور التالية:
1ـ انتهت الممارسة التي شهدناها في العشرين عاماً الماضية، فلا المشتقات الماليّة المعقّدة كالـ«CDS» ولا الإقراض المفرط لصناديق التحوّط ولا لصناديق التملّك ستكون موجودة في المدى المنظور. وهذا يعنى انحسار ظاهرة الـ«Prime Brokerage» التي كانت أحد أهم مصادر ربح المصارف أخيراً.
2ـ عودة إلى التسليف التقليدي وأفول نجم المصارف الاستثمارية ومنع المصارف التجارية من استعمالها لعمليات مصرفية خارج الموازنة.
3ـ إمكان دخول الدولة دخولاً مباشراً ليس فقط للرقابة، ولكن أيضاً لتملُّك مصارف وشركات.
4ـ الاضطرار إلى ضخ كتلة نقدية جديدة ضخمة عن طريق الطبع، إضافةً إلى الاقتراض. وفي هذا الإطار لا خوف من التضخم لأن الدول الرئيسية كلها ستطبع، وبالتالي لن يكون هناك بديل لعملة رئيسية بعملة أخرى.
5ـ انهيار نظام الإقراض المفرط لتصحيح الأوضاع المالية. وبسبب ضخامة المبالغ التي أنتجها، فإنّ عمليّة التصحيح ستستغرق سنوات عديدة، هذا إذا نجحت الحكومات والمصارف بذلك من دون تهديد الاقتصادات جذرياً.
6ـ نتيجة للنقطة الأخيرة، سيحصل انكماش فعلي نسبة للسابق، حيث إنّ نمو السنوات العشرين السابقة كان نتيجة للإقراض المفرط.

قمّة الانغماس

لا بدّ من التأكيد أنّ لا خيار للولايات المتحدة وأوروبا ومعظم الدول الناشئة إلا بالاقتراض، ولا خيار للصناديق السيادية للدول كالصين وتايوان والسعودية والكويت والنرويج إلا بإقراض وسد حاجات الدول المقترضة، لأنّنا نعيش اليوم في قمة انغماس الجميع في نظام مالي ونقدي واحد. هل كنا نتصور يوماً أن تأتي دول مثل غانا والغابون أو طاجكستان ورومانيا أو لبنان للاقتراض من السوق الدولية، وتجد أن هناك فائضاً مضاعفاً للاكتتاب في سنداتها؟ للأسف، حتّى تُصحّح الأوضاع (إذا نجح التصحيح) في السنوات المقبلة ستبقى الدول الغنية نقدياً مضطرة إلى تصريف مخزونها لسدّ حاجات الدول المقترضة.
أمّا الآن، فجلّ ما يمكن الطموح إليه، في ضوء خطط التحفيز الأميركيّة والعالميّة (مقرّرات قمّة «G20») هو خلق نوع من الاستقرار النسبي، لأن البديل هو الانهيار الشامل للنظام المصرفي، وبالتالي الاقتصادي، سيناريو لا أحد يمكنه تخيّل تبعاته.
* شريك تنفيذي في مؤسّسة «WMG Funds» وناشر صحيفة «الأخبار»


اضطرابات مؤسفة

باستعراض أداء البلدان الناشئة يمكن التأكيد أنّ نمط نموّها السريع لم يكن مقنعاً ولا مستداماً. فتلك البلدان ستنكمش أسرع من غيرها، وستجد أنه لا مفر إلّا بالانزواء لتنمية الاستهلاك الداخلي للتعويض عن الانكماش في قطاع التصدير. ومن المؤسف القول إنّ نمط التباطؤ في النمو الاقتصادي سيؤدي إلى اضطرابات اجتماعية في دول عديدة كالصين وأوكرانيا وروسيا وإسبانيا، فضلاً عمّا يشاع عن أن أوروبا الشرقيّة قد تكون المصدر الرئيسي لقلق القارة العجوز نتيجة التوسع السريع في اقتصاداتها بعد تحررها من الاتحاد السوفياتي.