تنتج من الإجراءات التي اعتمدتها الشركات حول العالم للتكيّف مع موجة الركود سلسلة من الاحتجاجات العنيفة والسلميّة. فإعادة الهيكلة لخفض الأكلاف تعني إلغاء الوظائف. والأزمة التي بدأت على شكل عقدة ائتمانيّة تحوّلت إلى غضب عمالي يزداد مع ارتفاع معدّلات البطالة، ليذكّر بأحداث «ثورة شيكاغو» عام 1886
حسن شقراني
في نهاية العام الماضي، بدأ يتضّح أنّ الأزمة الماليّة التي عصفت بالبورصات حول العالم نتيجة لأزمة الائتمان التي كانت محصّلة لانفجار فقاعة الرهون العقاريّة في الولايات المتّحدة، ستتحوّل إلى أزمة اقتصاديّة. فبدء استعادة العافية نسبياً تطلّب أقلّ من فصل بالنسبة إلى البورصات. لأنّ إجراءات التحفيز وخطط الإنقاذ المالي التي أقرّت في جميع البلدان المتأثّرة أعادت ثقة المستثمرينَ في المراكز الماليّة إلى السكّة الإيجابيّة. وتبلور ذلك أمس، عندما ارتفعت المؤشّرات إلى أعلى مستوياتها منذ كانون الثاني الماضي. فمؤشّر «MSCI» للأسواق العالميّة ارتفع بنسبة 12 في المئة في نيسان الماضي، كما ارتفع مكوّنه الخاص بالأسواق النامية بنسبة 17 في المئة، وهو أعلى معدّل نموّ شهري خلال 20 عاماً.
ولكن سهولة انعكاس النمط وعودة النموّ في الأسواق الماليّة، تقابلهما صعوبة جذريّة على صعيد المؤشّرات الاقتصاديّة الحقيقيّة: الإنتاج، التوظيف، معدّل البطالة، النموّ... وما يثير في عيد العمّال العالمي هو أنّ تلك المؤشّرات التي تعكس حدّة ركود عالمي هو الأسوأ منذ الحرب العالميّة الثانية، تُتَرجم في النهاية تراجعاً في مستوى معيشة الفئات المهمّشة. ولهذا الواقع اضطرابات اجتماعيّة تظهر على شكل احتجاجات وتظاهرات وبعض الأعمال العنفيّة، وخصوصاً في البلدان الصناعيّة التي تعدّ مراكز العولمة القائمة.

الولايات المتّحدة

في أوّل أيّار عام 1886، نظّمت مجموعة من العمّال والحرفيّين والتجّار وحتّى العمّال المهاجرين في مدينة شيكاغو في ولاية إيلينوي (ولاية الرئيس الأميركي الحالي باراك أوباما) احتجاجاً امتدّ ثلاثة أيّام بعدما قتل عناصر الشرطة أربعة عمّال محتجّين في مصنع «McCormick Harvesting Machine»، والتظاهرة السلميّة انتهت بمواجهات عنيفة قضى فيها عشرة أشخاص بينهم سبعة من السلك الأمني، ودفعت السلطات إلى معاقبة أربعة «فوضويّين» عبر إعدامهم شنقاً في العلن.
الحادثة أطلقت شرارة غضب عالمي، وكرّست الأوّل من أيّار عيداً للعمّال (التعريف الأساسي كان في أستراليا عام 1856) وتمجيداً للحركة العمّاليّة العالميّة المعروفة أساساً بسعيها للحصول على حقّ «8 ساعات عمل يومياً».
والولايات المتّحدة تعيش حالياً وضعاً صعباً جداً بسبب الركود الحاد الممتّد منذ كانون الأوّل عام 2007. فقد فقدت أكثر من 5 ملايين وظيفة، وارتفع معدّل البطالة إلى 8.5 في المئة: كثيرون فقدوا منازلهم ويعيشون حالياً في مخيّمات فقر.
وهذه الأزمة الاقتصاديّة تهدّد بالتحوّل إلى اضطرابات اجتماعيّة، إذا غلب الركود خطّة باراك أوباما لإنعاش الاقتصاد.

أوروبا واليابان

كثيراً ما كانت أوروبا المنطقة الأكثر جذريّة في ما يتعلّق بالحقوق الاجتماعيّة، ربّما لأنّها كانت نبع عصر الأنوار، ومثّّلت دولها النموذج الرائد لـ«الأنظمة الاجتماعيّة»: رأسماليّة بحقوق اجتماعيّة عالية. ونتيجة للأزمة القائمة شهدت بلدان القارّة احتجاجات جذريّة، أبرزها كان في فرنسا، حين سار الملايين لتكريس حقوق العمّال والمهمّشن في تظاهرتين رأى فيهما رئيس الحكومة اليميني السابق، دومينيك دو فيلبان «خطراً ثورياً». واليوم تشهد بلاد نيكولا ساركوزي تظاهرة ثالثة قد تتحوّل خطراً فعلياً على الحكم رغم محاولاته الكثيرة لاحتواء التداعيات الاجتماعيّة للأزمة.
وفي ألمانيا، أيضاً الخطر العمالي محدق. وتُنظّم اليوم 20 تظاهرة في برلين وحدها، تحت شعارات مثل «الرأسماليّة هي أزمة وحرب ــــ من أجل الثورة الاجتماعيّة». ولا يمكن السلطات أبداً إغفال زخم الغضب الشعبي الذي أدّى إلى إحراق أكثر من 70 سيّارة في العاصمة منذ كانون الثاني الماضي، وفقاً لما تنقله صحيفة «Wall Street Journal».
وأوضحت البيانات التي نشرتها وكالة الإحصاءات الأوروبيّة، أنّ معدّل البطالة في منطقة اليورو ارتفع إلى 8.9 في المئة.
أمّا في أكبر اقتصاد آسيوي فإنّ الأمور تبدو هادئة نسبياً، ولكن قد يكون ذلك الهدوء قبل العاصفة، أو حتّى الانعكاس الطبيعي لعدم تخطّي معدّل البطالة الـ5 في المئة. ولكن نسبة تقلّص الاقتصاد الياباني في عام 2009 ستكون الأعلى بين البلدان الصناعيّة (6.2 في المئة) وذلك لن ينعكس سوى إلغاء وظائف، وضغوط اجتماعيّة وربّما موجة انتحارات!
هذه المراكز الثلاثة التي تعدّ أكبر الاقتصادات حجماً في العالم وأكثرها حداثة وتنوّعاً، تعاني ما بذرته أيدي القيّمين عليها من «يمين» و«يسار» و«معتدل»، وفقدان الرقابة على الأسواق الماليّة، ونشوء موجة الركود وربّما «ثورة شيكاغو» عالميّة.


وا أوباما

أعلن البيت الأبيض أمس، أنّ شركة صناعة السيّارات المتعثّرة، «Chrysler»، لن تستطيع تجنّب الإفلاس، وستتقدّم بطلب لتطبيق هذا الإجراء بعدما رفض دائنوها الـ46 اتفاقيّة تقضي بحصولهم على 2.5 مليار دولار حالاً في مقابل نسيان الديون الكاملة البالغ حجمها 6.9 تريليونات دولار. ويأتي هذا القرار رغم موافقة عمّال الشركة على خفض سقف مطالبهم لإنقاذها. واللافت هو أنّ مجموعة من العمّال السابقين والحاليّين تفاوض لإمكان تملّك العمّال لشركتهم المفلسة، وينتظرون تبلور نوايا الرئيس باراك أوباما في هذا
السياق.