ظاهرة بنك الفقراء التي أطلقها أستاذ العلوم الاقتصادية البنغلادشي، محمد يونس، الحائز جائزة نوبل للاقتصاد في عام 2006، تتوسع وتنتشر في معظم القارات وتبشّر بصنع معجزات. الفكرة التي بدأت في أوائل سبعينيات القرن الماضي بربع دولار برهنت على صوابيّة اقتصادية نادرة حتّى في مركز العولمة الماليّة، نيويورك!
نيويورك ـ نزار عبود
تطوّرت نظريّة «مصرف الفقراء» التي أطلقها محمّد يونس، خلال العقود الثلاثة الماضي، وخصوصاً بعدما وضع الاقتصادي البنغلادشي كتابه الذي نشره عام 1999 بالعنوان نفسه. ليُعدّ اليوم مصرف «غرامين»، ومعناه باللغة البنغلادشيّة الريف، أكبر مصرف يقدم قروضاً صغيرة لأشخاص كانوا منبوذين من النظام المصرفي العالمي. فالمصرف يساعد 7.6 ملايين أسرة حول العالم تصل نسبة النساء بينهم إلى 97 في المئة، لأن المرأة كانت الأكثر حرماناً في المجتمعات الفقيرة، ولأن النظام المصرفي مارس التمييز بحقها. كما يؤمّن 24 ألف وظيفة ولم يتعرض لأي مشاكل بسبب الأزمة المالية العالمية المتفشّية. بل على العكس فإنّ المستثمرين فيه، وهم أنفسهم المدينون، يتمتعون بعوائد عالية على استثماراتهم تتجاوز الـ10 في المئة.
هذه التجربة تبشّر بالقضاء على الفقر في العالم بنسبة 50 في المئة بحلول 2015 في العالم. وربما بنسبة أعلى بكثير في بنغلادش التي تعدّ أفقر دول العالم على الإطلاق، كما وعد يونس نفسه.
اليوم يعمل مصرف «غرامين» في الولايات المتحدة ويُقرض الفقراء المدقعين في نيويورك مبالغ صغيرة لا تتجاوز 2500 دولار في حدّها الأقصى. وبذلك يحوّل امرأة عاطلة من العمل إلى بائعة خضار أو تاجرة أحذية، ويحميها من الغرق في مستنقع الفقر. وعلى عكس المصارف الأخرى، لا يعاني مشاكل مع المدينين الذين يسدّدون قروضهم في مواعيدها.
وخلال الأشهر الأخيرة، قدّم المصرف في حي «جاكسون هايتس» في نيويورك، 1.2 مليون دولار إلى 440 شخصاً يعملون لحسابهم الخاص معظمهم من النساء الفقيرات. ولقد سدّدوا ما عليهم بنسبة 99.5 في المئة في المواعيد المحددة حتى في زمن الانكماش الاقتصادي الذي تمر به المدينة. هذا الوضع شجّع المصرف على التفكير في فتح فرع آخر في مقاطعة وايك بكلفة مليوني دولار. يأتي هذا في الوقت الذي تقفل فيها المصارف الأميركية الكبيرة العريقة فروعها بالجملة وتُفلس مصارف يناهز عمرها مئة عام. ولهذا يعتقد محمد يونس أن مصارف الفقراء «لن تعرف الكساد» حتى في زمن الشحة المالية والانكماش الأعظم في تاريخ النظام المصرفي. ويرى في نظريّاته أن العولمة يمكن أن تكون جيّدة إذا سُمح للسيارة الصغيرة بأن تسير على خط على الطريق السريع بمحاذاة الشاحنة العملاقة وفق قوانين السير الموحدة، لا أن تتصرّف الشاحنات والباصات الضخمة كما لو أنها وحدها على الطريق.
وراء هذه النظريّة الاقتصاديّة الاجتماعيّة قصة نضال بدأه يونس في ستينيات القرن الماضي. ففور تخرّجه بشهادة دكتوراه في الاقتصاد انضم يونس إلى هيئة التخطيط في بنغلادش لبناء اقتصاد دمرته الحرب والفقر المزمن، غير أنّه وجد كل علومه غير مجدية. وبعد 3 أشهر ترك منصبه وعاد إلى التدريس والتأمل في كيفية وضع الحلول، إلّا أن سوء الإدارة، جعله ييأس من التغيير عبر النظام نفسه، فانطلق في رحلة لاكتشاف المعاناة الحقيقيّة للفقراء ووجد أن الناس يعانون كثيراً للحصول على مبلغ زهيد للغاية يمكن أن يعتقهم من الرق المطلق.
فخوف المصرفيّين من قدرة الفقراء على تسديد دفعات ديونهم مهما كانت صغيرة، واجهه يونس من خلال مدّ الفقراء الطموحين إلى تطوير أعمالهم بنفسه بمبالغ صغيرة وصلت في بعض الأحيان إلى ربع دولار. ونجحت التجربة من خلال معيارين: دفعات القروض كانت تسدّد في الوقت المحدّد ودخول المقترضين كانت تتضاعف.
هذه التجربة انتقلت أخيراً إلى مصرف إقراض عبر الإنترنت أنشئ في الدنمارك ويقدم القروض إلى المصالح الصغيرة في أفريقيا عن طريق موقع المزاد الشهير «Ebay». فيه تحصل مناقصة بين مستثمرين على تقديم قروض إلى شركات صغيرة مثل مزارع الدواجن أو محالّ صغيرة بعد دراسة خبراء على الأرض أوضاعها.
وترسو المناقصة في موقع «MYC4» بعد شهر من عرضه ضمن مبالغ لا تزيد على 100 ألف يورو. هذه التجربة برهنت على نتائج استثمارية مجدية بلغت نسبة مردودها 13 في المئة خلال السنة الماضية. وفي إطارها انتشلت الكثير من الشركات الصغيرة التي كانت تصارع من أجل تأمين الحد الأدنى من الدخل لأسر لم يكن لديها ثمن لقاحات للدواجن أو الماشية، ولا أسمدة للمزارع في أنحاء مختلفة من أفريقيا.
وحالياً «يشارك حوالى 13 ألف مستثمر من 83 دولة قدّموا 6.5 ملايين يورو إلى 3700 مشروع صغير في الدول الأفريقية»، بحسب الرئيس التنفيذي للشركة مادس كجير، فمؤسّسته تعمل من كوبنهاغن بواسطة 32 موظفاً، ولديها مكتب في أوغندا يدرس المشاريع قبل استدراج العروض لتمويلها. وتتوقع الشركة أن تغطي نفقاتها بحلول عام 2011.


عيدان القصب

كان أبناء القرى الفقيرة في بنغلادش يلجأون إلى المرابين للحصول على قروض بفوائد كبيرة، وهو الأمر الذي حفّز محمّد يونس على تطوير بديل. وخلال بحثه صعقته امرأة كانت تصنع السلال من عيدان القصب. تعمل طيلة النهار لتجني ما يعادل بنسين في اليوم. سألها لماذا لا تبيع السلال لحسابها؟ قالت إن مشكلتها أنها لا تملك مالاً لشراء القصب. وأنها ذهبت إلى المرابي لاقتراض المبلغ فألزمها ببيع إنتاجها له. فتحولت إلى رقيق تعمل لقاء بنسين يومياً، فيما لم يكن القرض يتجاوز الـ25 سنتاً، ثمن القصب الذي يمثّل المادة الأولية لإنتاجها.