خسر الاقتصاد الروسي في كانون الثاني الماضي 300 ألف وظيفة، ليرتفع معدّل البطالة إلى 8.1 في المئة، في إشارة جديدة إلى مدى تأثّر البلد الأوروبي الشرقي بالأزمة الاقتصاديّة العالميّة. فالطبقة الوسطى تعيش الخوف من العودة إلى حقبة تسعينيّات القرن الماضي، فيما الشركات تخفض أكلافها وتطرد الموظّفين، معوّضة عليهم في بعض الأحيان بالكافيار!
موسكو ــ حبيب فوعاني
يمثّل هبوط أسعار النفط والمعادن وأسعار الخامات الأخرى، التي يعتمد عليها الاقتصاد الروسي، وكذلك أزمة السيولة العالمية، الدور الأبرز في ظهور مشكلات في الاقتصاد الروسي. ويُعد إلغاء الوظائف وإرغام الموظفين على أخذ إجازات غير مدفوعة أو تقليص الرواتب وتأخيرها من أول مظاهر الأزمة، التي تهدّد بإعادة روسيا، صاحبة الاقتصاد الرقم 11 عالمياً، إلى أيّام الحقبة السوداء بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وتقضي على إنجازات الرئيس فلاديمير بوتين منذ بداية القرن الحالي.
ففي ظلّ توقّعات رسميّة بأنّ الاقتصاد سيتقلّص بنسبة 2.2 في المئة خلال العام الجاري، تجري عمليّة إلغاء الوظائف حتّى في المصانع والشركات التي تعدّ فخراً لروسيا، مثل مصنع «كاماز» للشاحنات، الذي فصل 3000 من عامليه، وفي شركات النفط والغاز مثل «سورغوت نفط غاز»، التي فصلت حوالى 15 في المئة من عمالها البالغ عددهم 90 ألف عامل. وكذلك في الإدارات الرسمية مثل إدارة مدينة تولا، التي قلّصت عدد موظّفيها بنسبة تتراوح بين 20 في المئة و30 في المئة، وفي العيادات الخاصة حيث فصلت سلسلة عيادات الأسنان «ماستردينت» الروسية 80 في المئة من موظفيها.
وبسبب نقص السيولة، وكما كانت الأمور في بداية التسعينيات من القرن الماضي، تدفع مؤسسة «خلادكو» في سيبيريا لعمّالها رواتبهم أسماكاً وثماراً بحرية وكافياراً أحمر. ومن يرد تقديم استقالته يعطَ 18 كيلوغراماً من الكافيار تعويضاً.
وفي أحد مصانع الغواصات الروسية، حُذّر العمال من أنهم لن يقبضوا رواتبهم حتى نيسان المقبل. وعموماً، تُقلّص الرواتب بنسب تصل إلى 20 في المئة. ويُجبر عمال بعض المصانع على تحرير طلبات استقالة طوعية، وإلا يُتهمون بإفشاء أسرار مؤسساتهم التجارية ويُطردون منها من دون تعويضات.
هذا الواقع الذي يهدّد بإطلاق إضرابات اجتماعيّة، يأتي بعدما هوت الأسهم الروسية بنسبة 80 في المئة منذ الصيف الماضي، وارتفع سعر صرف الدولار الرسمي أكثر من 35 في المئة إلى 36 روبلاً مقابل 23 روبلاً في آب الماضي، رغم إنفاق المصرف المركزي حوالى 160 مليار دولار من احتياطي العملات الصعبة لدعمه. ووفقاً لصحيفة «كومسومولسكايا برافدا»، تنفق روسيا مليار دولار في اليوم لمواجهة الأزمة.
وما يزيد الأمور سوءاً هو التوقّعات الرسميّة، فبحسب وزير المال، أليكسي كودرين، ستنخفض الصادرات، التي يمثل الغاز والنفط 55 في المئة منها، بنسبة 40 في المئة أو بقيمة 200 مليار دولار، إذا بقيت الأسعار على ما هي عليه في العام المقبل. وسيتحول الفائض في الميزانية لأول مرة منذ عام 2000 إلى عجز فيها قد يبلغ 5 في المئة، ويمكن أن يصل إلى 10 في المئة بحسب خبراء آخرين. وبالنسبة للاحتياطيّ العالمي، الذي بلغ في بداية آب الماضي 598 مليار دولار، فقد أصبح 386.6 مليار دولار وفقاً لما نقلته وكالة الأنباء الروسيّة «نوفوستي» أمس.
وبعبارة أخرى، «بدأ الركود في روسيا»، وفقاً لنائب وزيرة التنمية الاقتصادية الروسية أندريه كليباتش، متوقعاً حصول انحسار اقتصادي في ثلاثة أرباع العام الجاري.
وتستمرّ روسيا باتباع النهج الاقتصادي الذي رسم ملامحه الاقتصاديان الليبراليّان يغور غيدار وأناتولي تشوبايس في بداية التسعينيات من القرن الماضي. إلا أنّ هذا النهج يثير الكثير من التساؤلات في شأن المسار الذي يطوَّر على أساسه الاقتصاد. فحتّى قطاع الطاقة لم ينجُ من استراتيجية كودرين بعدم إقراض الشركات والمؤسسات الروسية. وكان عملاق الغاز «غاز بروم»، الذي هبطت قيمته السوقيّة من 350 مليار دولار في الربيع الماضي إلى 70 مليار دولار الآن، مجبراً، لتمويل أعماله، على الاقتراض من الخارج، بما مجموعه خمس المبلغ الذي اقترضته المؤسسات الروسية من المصارف الغربية، والبالغ 490 مليار دولار وفق أرقام غير رسمية، أو 450 ملياراً وفقاً لرئيس غرفة التجارة والصناعة الروسية يفغيني بريماكوف، الذي حذّر في نهاية العام الماضي من أن ديون الشركات الروسية يمكن أن تودي بروسيا إلى الإفلاس.
وفي السياق نفسه، فإنّ انتشار الفساد يعمق الأزمة الاقتصادية، ولا سيما أن روسيا تحتل وفق آخر الإحصاءات الغربية المرتبة الـ147 بين 180 بلداً في ما يتعلّق بمؤشّرات الفساد، الذي اعترف بوتين في آخر مؤتمر صحافي له في نهاية ولايتيه الرئاسيتين بأنه لم يولِه الاهتمام اللازم، ويحاول محاربته الآن الرئيس ديمتري مدفيديف، لكن دون جدوى.


مواجهة بالموازنة

تنوي روسيا إنفاق أكثر من ربع موازنتها الاتحاديّة، أي حوالى 53.3 مليار دولار، لمواجهة تداعيات الأزمة الاقتصاديّة العالميّة، حسبما نقلت صحيفة «فيدوموستي» عن مصادر مطّلعة. وقالت الصحيفة اليومية الاقتصادية إنّه لإفساح المجال أمام هذه التعديلات، اقتُطع 21 في المئة من المخصصات الواردة في الموزانة السابقة، في محاولة لضمان ألا يتجاوز العجز في الموازنة 8 في المئة. وأضاف التقرير أنّ حجم الموزانة الجديدة التي بنيت على سعر تقديري للنفط يبلغ 41 دولاراً للبرميل، يزيد 15.3 مليار دولار (583.6 مليار روبل) عن الموازنة السابقة.