دفعت الأزمة الماليّة ـــ الاقتصاديّة العالميّة إلى سقوط الاقتصاد الكوني في هوّة أدّت إلى تكبّد البورصات العالميّة الكبرى خسائر قياسيّة، تبلغ، بالقيمة السوقيّة، 30 تريليون دولار (ضعفا الناتج الأميركي) وموجة إفلاسات كثيرة. والعالم اليوم، بمستثمريه ومستهلكيه، يتطلّع إلى عودة الثقة والطلب ولكن العام الجديد سيكون أسوأ!
حسن شقراني
عام 2009 سيشهد الانعكاسات الحقيقيّة للأزمة الماليّة العالميّة. قد لا يخلو أيّ خطاب يقوّم الأوضاع الاقتصاديّة والماليّة في العالم ويستشرف آفاق نظام العولمة القائم، من هذه العبارة. فالانعكاسات الحقيقيّة تعني بطبيعة الحال ما سيتحتّمه تراجع المؤشّرات الماليّة بفعل تراجع الثقة في الأسواق إلى مستويات قياسيّة، أي انعكاس على المؤشّرات الاقتصاديّة: انخفاض الطلب بفعل قلق المستهلكين فتراجع في الأرباح فإفلاسات فارتفاع معدّلات البطالة فانخفاض الطلب مجدّداً... إنّها دورة الانكماش التي قد تؤدّي إلى كساد حاد شبيه بذلك «العظيم» الذي عاشه العالم الرأسمالي في ثلاثينيّات القرن الماضي.
هذا التوقّع يؤكّده مراراً رئيس صندوق النقد الدولي، دومينيك شتراوس ـــ كان، الذي يعدّ من بين أكبر مدراء العولمة الماليّة القائمة. ويأتي بعدما أظهرت الأزمة (آفات السوق التي نتجت من سوء الإدراء وانعدام الرقابة) أنّها أقوى من الإجراءات الحكوميّة التي اتّبعت والتي ترجمت في تطبيق المبدأ المخالف للرأسماليّة أساساً: التأميم. فالمصارف وصلت إلى مرحلة من العطش للسيولة لدرجة أنّها وافقت على قبول الأموال الحكوميّة من أجل استكمال الأعمال.
عام 2008 كان سيّئاً جداً على البورصات والأسهم المتداولة في المراكز الماليّة الضخمة. فرغم أنّ الأيّام الأخيرة منه حملت نوعاً ما انتعاشاً إلى الأسهم مع بدء «إجراءات الإنقاذ» (الخطط الماليّة الحكوميّة) بالتبلور واقعياً، في المحصّلة خسرت المؤشّرات الماليّة المليارات على مدار العام الذي بدأ مذيّلاً بتداعيات فقاعة الرهون العقاريّة في الولايات المتّحدة التي انفجرت في صيف عام 2007.
ووفقاً لبيانات اللجنة الدوليّة للتداول في البورصات، التي تتبع الأسواق الماليّة في أكثر من 53 بلداً متقدّماً، فإنّ 30 ترليون دولار من القيمة السوقيّة للأسهم المتداولة تبخّرت في عام 2008 حتّى نهاية تشرين الثاني. وهذه الخسارة تعكس انخفاضات قياسيّة في مؤشّرات البورصات في طوكيو وأوروبا والولايات المتّحدة والعالم النامي.
فبحسب توقّعات وكالة «رويترز» ستنهي الأسهم الأوروبيّة العام المشؤوم بخسارة نسبتها 45 في المئة. وهذا التراجع يترجم خسارة قيمتها حوالى 14 تريليون دولار بالقيمة السوقيّة. وفي اليابان، حيث تنعكس الاضطرابات الماليّة والاقتصاديّة «تبدّلات» سياسيّة قياسيّة أيضاً، فإنّ مؤشّر «NIKKEI» سيسجّل تراجعاً نسبته 42.12 في المئة.
أمّا في الولايات المتّحدة حيث انطلقت موجبات الأزمة أساساً وحيث يتطلّع العالم إلى أدوات الحلّ، فيمكن ملاحظة أنّ مؤشّر «S&P500» قد يسجّل تراجعاً بنسبة تقارب 40 في المئة، وهو أكبر تراجع له منذ الكساد العظيم حين خسر 47.1 في المئة.
وفي ظلّ هذه التراجعات الحادّة واستمرار الحذر، أو بالأحرى عدم الثقة، في الأسواق، تأثّرت القطاعات الاقتصاديّة في العالم وتراجعت الاستثمارات. وبعدما بدا في البداية أنّ الاقتصادات النامية ستتجاوز الأزمة وتداعياتها وستقطر النموّ الكوني، ظهر أنّ الولايات المتّحدة لا تزال المحرّك الأساسي للطلب في العالم. واقتصادها الذي تبلغ قيمته 13.7 مليار دولار، ينتظر حالياً رزمة المحفّزات الاقتصاديّة التي تدرسها حالياً إدارة الرئيس المنتخب باراك أوباما والتي قد تتجاوز قيمتها 700 مليار دولار، حسبما نقلت صحيفة «Wall Street Journal» في وقت سابق من الشهر الجاري.
وهذه الخطّة الاقتصاديّة، التي تتضمّن أساساً إنفاقاً على مشاريع البنية التحتيّة وتحديث قطاعات مترهّلة، هي ضرورريّة للاقتصاد العالمي بقدر ما هي حيويّة لاقتصاد أميركا، الذي يتوقّع الرئيس الحالي لمصرفه المركزي (الاحتياطي الفدرالي)، بن برنانكي، أن ترتفع نسبة البطالة فيه إلى 7.5 في المئة في نهاية عام 2009.
فتوقّعات صندوق النقد الدولي تفيد بأنّ نسبة نموّ الاقتصاد الكوني ستكون 2.2 في المئة في 2009، بعدما كانت حوالى 4.5 في المئة في عام 2008، وسترتفع معدّلات البطالة ليزيد عدد العاطلين من العمل عن 210 ملايين شخص حتّى 2010. وموجات الانكماش التي تعيش فيها الاقتصادات المتقدّمة ستزداد حدّتها، لأنّ عودة النمو إلى المستويات المقبولة لن تتحقّق قبل بداية عام 2010. وبحسب صحيفة «Financial Times» فإنّ النصف الأوّل من العام المقبل سيكون سيّئاً بالفعل مع توقّع ظهور بعض المؤشّرات الإيجابيّة في الجزء الثاني بفعل بعض الإجراءات الحكوميّة الجذريّة. ولكن رغم ذلك، يقول المحلّل الاقتصادي في الصحيفة البريطانيّة، كريس جيلز، «عام 2009 سيكون عاماً للنسيان».


«الاستقرار الجديد»

يرتقب العالم في 2009 عقد قمم مجموعة الدول الصناعيّة العشرين الكبرى، المخصّصة لمعالجة النظام الاقتصادي القائم. فبعد القمّة الأولى التي احتضنتها واشنطن في 15 تشرين الثاني الماضي، يبدو أنّ زعماء العالم، في العالمين المتقدّم والنامي (وبينهم السعوديّة) سيعمدون إلى إقرار «الاستقرر الجديد» في العالم من خلال تغيير إحداثيّات النظام الاقتصادي والمالي على قاعدة منح البلدان النامية صوتاً أكبر في المحافل الدوليّة. وستنطلق هذه العمليّة في القمّة الأولى التي تستضيفها أوروبا في الربيع المقبل، على أن تستكمل بقمم أخرى.