أمام دم غزة المهدور على الإسفلت البارد وسط صمت لم تكسره سوى بعض أصوات رسمية عربية ارتفعت ربما حرجاً، انصبّ غضب الشارع العربي على «أم الدنيا» دون غيرها، لأنها فاقمت بنظره معاناة الغزاويين بإقفالها معبر رفح، مستنكراً تنازلها عن دورها القيادي العربي. غضب تفاوتت مواقف المصريين في لبنان منه، فمنهم من وجده مبرراً ومنهم من وجد فيه ظلماً لا يستحقه بلد قدّم الكثير لنصرة فلسطين
رنا حايك
في الفان المتّجه من ساحة المريجة نحو مجمع سيد الشهداء، ركب عامل مصري محاولاً عدم لفت الأنظار إليه. الصمت، وتفادي التلفظ بالجيم المعطّشة، أسلوب أصبح يتّبعه أخيراً الكثير من مواطنيه تجنّباً لمواقف محرجة تكررت كثيراً منذ بدء العدوان على غزة، إلّا أن تقاسيم وجهه الفرعونية كانت أقوى من إخفاء هويته وإنقاذه بالتالي من سخرية بعض الركاب الذين سرعان ما انهالوا عليه بوصلة تقريع من قبيل «إنت مصري ما هيك؟ ولك مش عيب عليكن؟»، عجز عن مجابهتها إلا بجملة واحدة: «مالناش علاقة يا عم.. إحنا جعانين، ومش فاضيين للكلام ده».
يشعر المصريون في لبنان بوطأة الغضب الشعبي المنصبّ على موقف بلادهم الرسمي إزاء مجازر التصفية التي تمارسها إسرائيل. بعضهم يعضّ على جرحه في محاولة لاستيعاب عتب يقتنع بمبرّراته، أما البعض الآخر، فتطغى مشاعره «الوطنية» على قدرته الاحتوائية.
أحدهم، الشهير، عمد إلى حرق جواز سفره المصري أمام السفارة في لحظة انفعالية عبّر خلالها عن قوة غضبه. سلوك لم يؤيّده مصري آخر، دفعه ميله للتروي في اتخاذ موقف أكثر تبايناً. فأحمد، الذين يكمل دراسته العليا في العلوم السياسية يميز «بين النظام والشارع. فأنا أخجل من موقف النظام لكنني لا أخجل من انتمائي لمصر. تلك الدولة الكبيرة التي صادر النظام دورها الريادي في العالم العربي منذ توقيع اتفاقية كامب دايفيد وفرّط به شيئاً فشيئاً من حينها».
حين يقوّم أحمد سياسة مصر الخارجية في العقود الأخيرة، يرى أن النظام «ضحّى بدوره العربي للنهوض بمصر على المستوى المحلي والتقدم بها، لكنه خسر الاثنين في النهاية»، إلا أن نبض الشارع المصري يطمئنه، وخصوصاً بعد «الحراك المطلبي والسياسي الذي يسوده تجاه القضايا المحلية، كإضرابات العمال، التي عصفت بمصانع المحلة منذ فترة، والقضايا الخارجية كالتظاهرات التي تملأ الشوارع اليوم نصرة لغزة. هذا الحراك يتحدى العصا الأمنية التي تطبق على أنفاسه وهي ذاتها التي تطبق على أنفاس الشعب الفلسطيني. فالشعوب في ناحية والحكام في ناحية».
إلا أن هذا الفصل بين السلطة والشعب الذي توصّل أحمد من خلاله لتجاوز الاندفاع الغريزي نحو الإحساس بالغبن أمام هجوم الشارع العربي على مصر لم يتوصل آخرون إلى تحقيقه.
«إحنا بنتبهدل»، يقول حسنين، صاحب بسطة خضار في أحد الأحياء الشعبية، شارحاً كيف حلّ التوتر بينه وبين زبائنه محلّ الود الذي كان سائداً، ومؤكداً «اللبنانيين ظلمونا. نسوا 48 و67 و73، وقد إيه مصر قدمت. مش مصر اللي يتعمل بيها كده. حرام».
يغضب الدم الفلسطيني المهدور حسنين، الذي يعبّر حتى عن استعداده لتأييد شن حرب على إسرائيل، بشرط «أن تشارك فيها جميع الدول العربية لا مصر وحدها»، مستنداً إلى المثل المصري الشعبي الشهير «الجرة أم ودنين يشيلوها اتنين».
يعتب بائع الخضار الذي «يمشي جنب الحيطة» اليوم كما يشرح، على اليمنيين الذين حاربت مصر لأجلهم وتنتقدها تظاهراتهم اليوم بقسوة. ويلمّح إلى عتب آخر تجاه موقف بلاده الرسمي الذي سرعان ما يبرره بأن «الأمن القومي والسياسة الخارجية يخضعان لدهاليز لا يدرك الشعب أبعادها».
التبرير ذاته يقدمه عامل مصري آخر في أحد الأفران. فمحمود يجزم بأن «مبارك أكيد مش راضي من جوّاه عاللي بيحصل في غزة، لكن موقفه محكوم بالمصالح الوطنية لشعبه». يؤيّد محمود بثقة تامة موقف حكومته التي «تدرك ما تفعله، لأن لكل حاكم سياسة يتبعها وهو أدرى بضروراتها»، فظروف مصر المالية لا تسمح لها بالتورط أكثر كما يقول «الوضع سيئ الآن، فكيف لو دخلنا في حرب؟»، ومذكّراً «ما تنسيش إنّو فيه معونات بتجيلنا سنوياً ما نقدرش نستغني عنها»، لينهي بجملة تفلّتت من بعض التحفظ «بصراحة اللي جوايا غير كده. كان نفسي الرّيس ياخد موقف حازم لكن هو أدرى بسياسته».
إزاء هذا التخبط، يبدو موقف عبير، وهي مصرية متزوجة لبنانياً وتقطن لبنان منذ حوالى 30 عاماً، أكثر ثباتاً وحزماً.
فرغم الغضب الشديد الذي ينتابها أمام مشاهد المجازر البشعة التي تقترف بحق فلسطينيي غزة، فإنها تميّز بين انفعالها الإنساني، وبين موقف النظام الذي «يفهم أكثر مني في السياسة، وبالتالي يتخذ الموقف الأنسب للحفاظ على مصلحة شعبه». تستاء عبير من موقف الشارع الذي «تناسى فجأةً أن السلاح وصل إلى غزة عبر مصر»، والذي «يتغاضى عن أن معبر رفح يفتح فعلاً لتمرير المساعدات الإنسانية»، لكنه لا يفاجئوها كثيراً، فبحسب رأيها «مصر قدمت الكثير إلى القضية الفلسطينية لكنها لم تحظَ بعرفان العالم العربي. قلبي مع الغزاويين، لكن لمصلحة بلدي الأولوية».
تستمع لآراء المصريين على اختلافهم. تنصت لخطاب يعبّر عن حيرة أهله بين وطن طليعي ورثوه وآخر مستكين سيورّثونه لأبنائهم، وفكرة واحدة تلتمع في الذهن: لا أحد من كل من قابلناهم، تجرأ على ذكر اسمه الحقيقي.