Strong>الإعلام الفرنسي ومجازر غزّةغطّت الثلوج شوارع باريس ومعظم المدن الفرنسية، مثلما غطّت أخبار الحرب على غزّة صفحات وهواء وسائل الإعلام الفرنسي. وصحيح أنّ التغطية الإعلامية اختلفت من مؤسّسة إلى أخرى، وتباينت المساحة المخصّصة لها مع مجرى التطوّرات الميدانية، فإنّ الانحياز لـ«مصالح إسرائيل وأمنها»، ظلّ القاعدة في إعلام لا يبحث سوى عن إرضاء المتلقي الفرنسي ومحاباة أهوائه وتوجهاته، في ظلّ غياب الإعلام «المُثَقّف». بقيت نشرات أخبار التلفزيونات الفرنسية مذيّلة بمقدمات تحمّل صواريخ «حماس» مسؤولية الحرب، وتجعل من الضحية مجرماً، والحصار يصبح نتيجة للحرب لا سبباً لها. وحده النقل المباشر ضبط الانحياز، بما أنّ الصورة تفضح من المجرم وتقول ما يعجز اللسان عن وصفه

باريس ــ بسّام الطيارة
في الأيّام الأولى للمجازر الصهيونية في غزة، كان بارزاً تعاطي محطات التلفزيون الفرنسي، تعاطياً انتقائياً مع الحدث «في سياق تحليلي غاب عنه الشرح لغير المتابعين». تغطية غلب عليها التشديد من جهة على «صواريخ القسام التي تعيث رعباً في ثلث مدن إسرائيل، وتهدّد مليوناً ونصف مليون من مواطنيها»، ومن ناحية أخرى، على «حماس التي اغتصبت السلطة من فتح وطردت الرئيس الشرعي».
كل هذا من دون الكلام على الحصار المتواصل للقطاع وأهله إلا نادراً، وبشكل غير مباشر، يجعل المتابع يعتقد أن الحصار «نتيجة الحرب الحالية»، لا سببها.
منطق مسيّر لمقدمات نشرات الأخبار، يجعل من صور الشهداء والجرحى الفلسطينيين، كأنها «تحصيل حاصل». وقد فرض انعدام سقوط قتلى وجرحى في الجانب الإسرائيلي على الإعلام الفرنسي البحث عن مواضيع تقرّب «صورة الدفاع عن إسرائيل من واقع الحدث»، فيرى المشاهد عدداً من التحقيقات المصوّرة التي تبرز «التحصينات الوقائية والملاجئ، إلى جانب التنظيم في الإسعاف المدني».
وقد لوحظ التشديد على لقطات مصوّرة، تظهر مدى تشابه المستوطنات الإسرائيلية (سديروت خصوصاً)، بالقرى الفرنسية والأوروبية، من حيث العشب الأخضر الذي يحيط بالمنازل، والمطابخ الحديثة، مع إجراء مقابلات سريعة مع مهاجرين من أصول فرنسية، وهو اختيار «مفيد عاطفياً»، ويقرّب «الضحية المزعومة» من «المتلقي الفرنسي».
وبعد هذه العناية بالجانب الإسرائيلي، يصبح الانتقال مسموحاً إلى غزة، «حيث تسيطر حماس»، وهي مقدمة تهيّئ المتلقي الفرنسي لـ«ضرورات دفاع إسرائيل عن نفسها»، مع تشديد على ذكر «حماس» في كل جملة تقريباً، وطبعاً تذكير بدور صواريخها «منذ ثماني سنوات» في التسبب بإعلان الحرب في 27 كانون الأول الماضي.
ولكن، مع تقدم أيام المجزرة، وارتفاع أعداد ضحاياها، تتغير قليلاً طريقة «معالجة الخبر». حينها، يصبح من الممكن أن تبدأ التحقيقات والرسائل من غزة بدل الدولة العبرية، من دون أن ينسى مقدّم(ة) النشرة، «تحضير رأي المتلقي»، بمقدمة تذكر بصواريخ «القسام» التي تسقط على جنوب إسرائيل... وإذا تطلب الأمر، تذكير بقصف شمالها من جانب حزب الله.
بالطبع، لا يمكن إخفاء صور الشهداء الفلسطينيين، من أطفال ونساء وعجزة، فتعمد بعض القنوات إلى «إمرار تصريحات» لمتحدّثين باسم «جيش الدفاع الإسرائيلي»، يتهمون فيها الحركة الإسلامية، باستعمال «المدنيين دروعاً بشرية». وفي كثير من الأحيان، تكون هذه التصريحات كافية لدفع المتلقي إلى إلقاء اللوم على «حماس». وحين تكون الصور الواردة من غزّة مؤلمة جداً، تُجرى مقابلات مع مسؤولين إسرائيليين، ليُسألوا عن «استهداف المدنيين»، ما يسمح لمقدم النشرة بإعلان «الحياد والتجرد»، وهو ما يسمح في الوقت نفسه للضابط الإسرائيلي بالدفاع عن «سياسة القصف»، وبالتالي محو الصور المرعبة من وجدان المتلقي الفرنسي. إلا أن التنافس على تقديم «البث الحي»، يأتي في عديد من الأحيان، ليقوّض أي محاولة لتجاوز الحقيقة. ويحدث هذا خصوصاً مع بعض المراسلين الميدانيين الذين ينقلون صورة واضحة، يمكن قصها وتقصيرها، ولكن لا يمكن تحريفها والتلاعب بها.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن معظم هؤلاء المراسلين، أدّوا دوراً كبيراً في دفع بعض المقدمين، إلى سبل «المهنية الصحافية» في التقديم الحقيقي لهذه الحرب.
ومع تقدّم وقائع المجزرة الصهيونية في الزمان والمكان، تتراجع قدرة التلاعب في تقديم الخبر، لينصبّ الجهد على «الحد من وقع الأرقام والأعداد». وقد حصل هذا بعد 24 ساعة من بدء الاجتياح البري، بحيث يذكر الجميع أنّ عدد الشهداء كان قد وصل قبل يوم السبت إلى نحو ٤٢٠. وفي اليوم الأول لانطلاق الهجوم البري، بلغت الحصيلة الأولية ٣٠ شهيداً، ما دفع بعض القنوات التلفزيونية إلى ذكر هذا العدد، والتشديد عليه، مع التركيز على الجندي الإسرائيلي الوحيد الذي قُتل، متناسية الحصيلة الكاملة للضحايا منذ بداية الحرب. وإن كان لا بدّ من ذكر الرقم الإجمالي (٥١٠ شهداء و٢٣٨٠ جريحاً)، فيكون في نهاية الخبر، عندما يكون انتباه المتلقى قد «تراخى».
وقد جاء خبر الهجوم على كنيس يهودي في مدينة تولوز في جنوبي غرب فرنسا، ليثير موجة خوف من «استيراد النزاع»، بحسب تعبير وزيرة الداخلية ميشال أليو ماري.
وفي السياق، لا يمكن إنكار أن النزاع العربي ــ الإسرائيلي له تأثير مباشر على بعض الحوادث الفردية بين أبناء الجاليتين اليهودية، والعربية والمسلمة في البلاد. فوزن الجالية اليهودية في مجال الإعلام الفرنسي، معروف. إلا أنه لا يؤدّي دوراً في الانحياز للدعاية الإسرائيلية بقدر ما يتوهّم البعض، إذ إن عدداً من كبار الإعلاميين الفرنسيين اليهود، لا يخفون انتقاداتهم لحكومة تل أبيب، ولتوجهاتها وسياستها التي «لا تخدم لا السلام ولا شعب إسرائيل».
ولعلّ من أبرز هذه الوجوه، ما تمثّله «لو نوفيل أوبسرفاتور» و«ماريان» و«لوموند ديبلوماتيك». ويمكن وضع بعض «الخوف من انتقاد إسرائيل»، في باب «وراثة عقدة الذنب» التي يحملها الأوروبيون تجاه جرائم النازيين بحق اليهود، وهو ما يجعل بعض الصحافيين من الجالية اليهودية، الأكثر جرأة وحرية في انتقاد الحرب ومخالفتها للقوانين الدولية ولشرعة حقوق الإنسان.


عندما يسعد العرب باليمين المتطرفوعلى هذا الصعيد، فإنّ عدداً من التنظيمات اليمينية المتطرفة ترى في المهاجرين العرب خطراً على «العنصر الأبيض الآري».
ويقود هذا الواقع عدداً لا بأس به من شرائح المجتمع الفرنسي، للاصطفاف إلى جانب الطروحات الإسرائيلية، ليس بسبب كره العرب ومعاداة القضية الفلسطينية، بل لإثبات ابتعادهم عن طروحات اليمين المتطرف.
في المقابل، فإن عدداً من الناشطين العرب «يسعدون» بدعم اليمين المتطرف لمجرد «كرهه لإسرائيل»، فيمعن هذا الموقف بإبعاد شرائح واسعة من المواطنين الفرنسيين، عن تأييد القضايا العربية، ويسهم بإلصاق صفات عنصرية بالجاليات العربية.