من لا يعرف غزة؟ إنها المدينة التي مثّلت على مدار سني الاحتلال «شوكة» في حلق المحتل. حتى إن رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل، إسحق رابين، تمنى أن تغرق في البحر. لكنها بقيت. ولو كانت تخشى الغرق لما سكنت الشاطئ
غزة ــ قيس صفدي
لا تزال غزة تدفع «ضريبة» الرفض، رفض الاحتلال، رفض الحصار، ورفض الذل والخنوع. تدفع الضريبة دماً. تبدو المدينة حزينة ومختلفة، لكنها غير نادمة. يفتخر سكانها بالانتماء إليها رغم «عمق» الجرح النازف.
منذ أسبوعين، غزة تواجه الموت وحيدة. أكثر من 4 آلاف من سكانها، نصفهم من الأطفال والنساء، تركت طائرات الاحتلال بصماتها عليهم بين قتيل وجريح. ودعت غزة 800 من أبنائها ولا تزال، بينما أصبح أكثر من 3200 جريح «أسرى» في المستشفيات.
الموت في غزة ليس خفياً. إنه يتحرك مع سكانها في كل مكان. يكاد يكون ملموساً في الشارع، والمنزل، والمستشفى، والمسجد، وحتى في مدارس ظن مئات المدنيين الذين لجأوا إليها أنها «آمنة»، لكن علم «الأونروا» الأزرق، لم يمثّل «خطاً أحمر» يحميهم من القتل.
وبدا أن الاحتلال يكره غزة حتى الحقد والموت. إنه يكره ناسها ومبانيها وتاريخها ومساجدها. ويشن غارات «عمياء» تستهدف كل ما فيها، البشر والحجر والشجر، حتى الأطفال والنساء في بيوتهم وغرف نومهم.
موجات من الغارات الجوية أعادت غزة عقوداً إلى الوراء. اختلفت معالمها في أيام قليلة. مباني شاهقة متعددة الطوابق زالت من مكانها، وأصبحت أثراً بعد عين. يكفي أن تزور مستشفى الشفاء الرئيسي لتدرك حجم الجريمة. جميع أقسامه ممتلئة. أسرّة متلاصقة. لا فرق بين جريح وجريح أو نوع ودرجة الإصابة، حتى إن ممراتها وغرف الإدارة والأطباء تحولت إلى أقسام للعلاج وإجراء العمليات.
شهداء غزة يرتقون فرادى وجماعات. أسر وعائلات عدة فقدت شهيداً واثنين وأكثر، وعائلات بأكملها ووريت في الثرى بعدما اجتثتها صواريخ الاحتلال من جذورها. لا مكان آمناً في غزة. امتنع الناس عن التجول في الشوارع.
زينات السموني واحدة من مئات المكلومين في غزة. فقدت 30 فرداً من عائلتها «دفعة واحدة»، بينهم زوجها وأربعة من أبنائها في قصف استهدف منازل العائلة المتلاصقة في حي الزيتون، الذي احتلت قوات الاحتلال أطرافه الشرقية، جنوب شرق مدينة غزة، مع بدء العملية البرية، ليل السبت الماضي.
تحاملت زينات على جراحها، واتصلت بإحدى الإذاعات المحلية بعد محاولات مضنية. تستغيث وتطلب النجدة، من دون جدوى. الاحتلال أعلن الحي «منطقة عسكرية مغلقة». وفرق الإسعاف والطوارئ، وحتى اللجنة الدولية للصليب الأحمر، لم تستطع الوصول لنجدة العائلة.
ساعات من القصف المتواصل استهدفت منازل عائلة السموني، ومنازل أخرى مجاورة، تقول زينات، التي ظلت «جاثية» على ركبتيها طوال الليل، والدماء تنزف من جسدها، وجثث زوجها وأبنائها من حولها. اقتحم جنود الاحتلال منزل هذه العائلة بعد ساعات من القصف المدفعي. وقالت: «كان زوجي ينزف من شظايا قذيفة، رفع يديه مستسلماً، فأجهز عليه جندي إسرائيلي بعدة عيارات نارية. فتحوا النار في كل مكان. لقد نجوت بأعجوبة، واستشهد الجميع».
النتيجة كانت كارثية. بعد ساعات من النزف، استشهد جميع أفراد العائلة، وخرجت زينات وثلاثة من أبنائها فقط، بينهم رضيعة لا يتعدى عمرها عشرين يوماً من بين «براثن» الموت. وقالت ساخرة: «يا ريت العرب ما ينسوا يبعثوا شوية أكفان في مساعداتهم. عنا أزمة أكفان في غزة».
ظلت جثث الشهداء تحت الأنقاض لأيام، إلى أن تمكنت فرق الإسعاف برفقة اللجنة الدولية للصليب الأحمر، من الوصول إلى المنازل المدمرة في الحي، مع إعلان الاحتلال عن «تهدئة مؤقتة» لثلاث ساعات يوم الأربعاء الماضي، استطاعوا خلالها انتشال الجثث والعثور على أحياء.
«كأن غزة تثقل هموم العالم. والكل يتمنى زوالها»، قال الستيني أبو خلف وتجاعيد وجهه ترسم خريطة لمعاناة سنين طويلة تحت الاحتلال.
كان أبو خلف يقف في طابور يمتد لمسافة 300 متر أمام مخبز العائلات وسط مدينة غزة. يتحدث إلى شاب عشريني عن تجارب لم يعشها. الحديث كان متشعباً عن الزواج والأسعار وحقوق الجيران.
لكن حضور السياسة كان طاغياً. سأل شاب: «شو رأيك يا حج في الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز؟». جاوبه: «الله يرضى عليه»، فيما انفجر الشباب من حوله ضحكاً.
وقبل أن تهدأ الضحكات، قال أبو خلف، الذي عمل مدرساً لعشرة أعوام في السعودية: «مش إنت قصدك خادم الحرمين الشريفين تشافيز».
وقبل أن يتناول أبو خلف نصف «ربطة» خبز، قال: «الموت من الجوع أفضل من الموت منهزمين». حديث لم يلق إعجاب صديقين يقفان في الطابور منذ ثلاث ساعات، ومع ذلك تهامسا: «لا بديل من الصمود. هي موتة ولا أكثر».