ما كان العرب يحتاجون إلى هذه الكمية من الوحشية الإسرائيلية ولا من الدماء الفلسطينية حتى يعلنوا انقساماً حاداً على وجهة التعامل مع إسرائيل. لكن ما يحصل اليوم هو أن الخلاف لا يتصل فقط بآراء في نظرة مستقبلية لا داعي لبحثها الآن، ولا في توجهات تتصل بأصل الموقف من إسرائيل، بل هو انقسام بين من يدعم ويغطّي آلة القتل الإسرائيلية، وبديله الاستسلام، ومن يعتقد بأن الموت في مواجهة آلة الاحتلال هو جزء من مسار للتحرر من هذا الاحتلال. لم يغب هذا النقاش أبداً عن كل الشعوب التي واجهت صعوبات أو استحقاقات مماثلة. لكن أنصار أميركا وإسرائيل من «عرب الاعتدال» وهم ينتشرون في دول عدة بينها لبنان، لا يريدون من تاريخ الشعوب إلا ما يناسبهم. حتى الدول الكبرى التي يخافونها، أو يحترمونها أو يريدون لنا أن نقتدي بها، لا يريدون أن نأخذ منها مثالاً في الطريق الذي اختطّته للوصول إلى ما وصلت إليه.
هؤلاء يريدون المشاركة في الحرب النفسية ضد الصامدين في غزة، وتصبح بيانات القيادة المصرية وسلطة محمود عباس أشبه بمناشير لم تنجح قوات الاحتلال في إيصالها إلى كل العالم العربي. ويقول محمود عباس وحسني مبارك إن على أهل غزة الاستسلام ورفض المقاومة، ما دام ثمن العكس هو الموت. هل راجع هؤلاء نصّ المناشير التي تلقي بها طائرات العدو فوق أهل القطاع وهي تقول بالضبط العبارة نفسها: ابتعدوا عن رجال حماس، ودلّونا عليهم، وبالتالي لن تتعرّضوا للأذية.
يرفض حاكم مصر، ومعه عباس وحكومات أخرى، دعم الموقف السياسي للمقاومة في فلسطين. لا يريدون أن يتحمّلوا كلفة قول «لا» لإسرائيل أو للولايات المتحدة، ثم يرفضون مدّ القطاع بعناصر القوة حتى يقدر على مواجهة القوة الإسرائيلية، وليس لدى حاكم مصر ومعه حاكم المقاطعة في رام الله سوى الصراخ ليل نهار لأجل الاستسلام فقط... وإذا ما جادلهم أحد في موقفهم، يخرجون مذكّرين بالبطولات والمعارك التي خاضوها ضد إسرائيل... ثم يتناسون أن إسرائيل لا تزال قائمة، وكذلك عدوانها، وكذلك جرائمها.
أما بقية هذا الفريق، ومنهم في لبنان، فيرفضون التضامن مع الفلسطيني بأكثر من مصل وحبة دواء. ولكنهم تناسوا أن بريطانيا العظمى دفعت ثمن رفضها توسّع ألمانيا في بقية أوروبا، فدمّرت لندن فقط لأن هناك من رفض أن يحكم النازيون شعوب الدول المجاورة. وفي فرنسا، ثار الشعب وقواه التي تحكم فرنسا اليوم ضد أقلية تشبه هؤلاء، وقالوا إن الاختباء خلف الخوف من قوة العدو يعني الموت فقط. وقاوموا، وسقط عشرات الألوف من أجل أن تبدو بلادهم أكثر حرية.
في العالم العربي، يريدون لنا أن نصدّق أن فرنسا خرجت من الجزائر وبلاد المغرب العربي لأنها أفاقت ذات صباح على حقوق الإنسان هناك. ويريد لنا هؤلاء أن ننسى سقوط أكثر من مليون شهيد لتحقيق الاستقلال... ويريدون لنا أن نصدّق أن إسرائيل خرجت من لبنان بفضل بيانات أمين الجميّل ووليد جنبلاط. ويريدون لنا أن نقبل حكاية أن العالم ضعف أمام دموع فؤاد السنيورة، فهزمت إسرائيل، لا بفعل مقاومة لا تزال تمثّل نموذجاً لكل الجوار...