غزة تحت الحصار». تذيل العبارة مشاهد على الشاشة لشهداء في أرض المعركة جلّهم من الأطفال والنساء وعمال الإسعاف، ولمقاتلين بأسلحة تكاد تكون بدائية، ينتظرون اقتراب العدو، براً، ليتمكنوا من إصابته بأسلحتهم ذات المدى القصير. تمضي المشاهد، والمقاتل السابق في حصار إسرائيل واجتياحها لبيروت عام 1982، صامت، إلى أن تحل اللقطة الأخيرة التي يظهر فيها المقاتلون، فيبكي
راجانا حمية
بحرقة، يبكي أحمد الترك. المقاتل «المتقاعد» في مخيم برج البراجنة، بكى الرجل عجزه ومن يشبهونه في مخيمات اللجوء عن الوصول إلى أرض المعركة في غزة التي هي اليوم بأمس الحاجة لسواعد أبنائها من ذوي الخبرة القتالية، بغض النظر عن انتمائهم الحزبي. يعيش أحمد ورفاقه حصارين: حصار غزة، الذي يشعرون معه بأن «كل قنبلة تُرمى هناك، تقع في القلوب هنا»، كما قال لنا أبو وليم نصار من مخيم برج البراجنة، و«حصارنا نحن المقاتلين، القابعين في المخيّمات، ولا نستطيع فعل شيء رغم خبراتنا» كما يقول الترك.
في تلك اللحظات المؤلمة، يكتفي هؤلاء بتقديم نصح للمقاتلين هناك، يحلمون بأن يصلهم بطريقة ما، وباسترجاع ذكريات المعارك التي خاضوها في لبنان. واللافت في ذلك، أنّ هؤلاء المقاتلين، المتقاعدين أصلاً، لا يزالون يحافظون على سرية «الأسرار» العسكرية، حيث يمتنع البعض منهم عن ذكر تفاصيل كنقاط الهجوم والدفاع التي كانوا متمركزين فيها أيامها.
يتكلم المقاتل السابق محمد أبو جلدي (جبهة شعبية)، الملقب «بملك البي سفن»، ولكن بحذر. يبدأ حديثه من غزة، فيشبه معاركها «بمعارك بيروت الغربية، الحصار نفسه، وحتى المعابر. كان معبر المتحف بمثابة معبر رفح اليوم، بعض القوى كانت تفتحه أقل من ساعة لتمرير الأكل». شبح ابتسامة يلوح على وجهه وهو يقول: «كله بفضل البعلبكيّة الذين كانوا يناضلون غير شكل: بالحشيش». يضحك ليتابع: «كانوا يعطون الإسرائيليين حشيشاً ليسمحوا بإدخال ما نحتاج إليه». لكن أكثر ما يؤلم المقاتل القديم في حديثه عن غزة أنه ممنوع من المشاركة في المعارك هناك. هكذا، أخذ يقضي معظم وقته أمام التلفزيون، «مشاركاً» على طريقته «مرات بشوف دبابة واقفة حد بيت، بفكر كيف كان ممكن التف عليها وأضربها».
منذ بدء العدوان، لا يتوقف عن تشريح أخبار المعارك، فيسرّ لأصدقائه المقاتلين بأنّ «مهماتنا كانت في بيروت أصعب من مهمات الغزاويين اليوم، لأننا كنا نقاتل على أرض الغير وكنا ننطخ (يطلق علينا النار)، فيما هم يقاتلون في أرضهم». لكن أبو وليم نصار يعارضه الرأي «حرب الغزاويين أقسى. كنا نرمي وجبة صواريخ تتعدى 40 صاروخاً ونبقى بمواقعنا، أما في غزة، فالمنطقة التي يُرمى منها الصاروخ يهرب منها المقاومون لأنها ستقصف في اللحظة نفسها». ويصرخ قائلاً «كان عنا بنادق، أما هم فلا. وغزة ما بدها رجال، بدها سلاح».
لكن، أثناء الحديث عن التدريب، لا مقارنة «بيننا وبين الغزاوية، نحنا خلقنا ومعنا السلاح، بتذكر أنه كان عمري 13 سنة وكنت أنقل ورفيقي صاروخ غراد كان طوله مترين و87 وقطره 187 إلى منصة الصواريخ. كنا ندرس القتال، وبس كنا نحضر الصف وما نكون حافظين كيف نفك ونركب البارودة ونحن مغمضين عيوننا، كنا نوكل ضرب».
يكتفي أبو وليم، البلّاط حالياً، بهذا القدر عن غزة. ويعود في ذاكرته لعام 1982. تنفرج أسارير أبو وليم وتحل الحماسة مكان الأسى في استرجاع عدد القتلى الإسرائيليين و«القوات الانعزالية». ثم يحدثنا عن ابتكارات المقاتلين عندما تنتهي ذخيرتهم. «كنا نستعين بأواني المطبخ إن وجدت أو نفك صواعق قذائف العدو غير المنفجرة لنوفر»، ويشرح «أنه عندما لا تنفجر القذيفة، نفك الصاعق، ونضع القذيفة في المياه الساخنة كي تطرى العجينة فيها، ثم نعجنها داخل علبة شبيهة بعلبة الفول ونضع فيها مسامير أحذية ونضيف الصاعق والفتيل، ونقذفها بالمقلاع». وعندما تنفد الصواعق، كان الشباب «يستعينون بالسيف (ليفة مصنوعة من المعدن لجلي الطناجر الصعبة)، فيحكّونها ويصلونها بالشرائط الكهربائية كي تخرج منها شرارة النار ويقذفونها». وفي غياب الذخيرة الحقيقية أو نقصانها، كان أبو جلدي يكسر كل ساعة «صحناً زجاجياً، فإن رد العدو بإطلاق النار، أرتاح، لأن معنى ذلك أنه لا هجوم».
هذا جزء من «العتاد» الحربي، الذي استخدمه المقاتلون في حروب كان أصعبها حصار الثمانين يوماً في بيروت. يومها لم تنفد الذخيرة فقط، بل الطعام أيضاً، ما دفعهم لذبح الهررة والكلاب وأكل الحشائش. ويذكر أبو جلدي أنهم اضطرّوا أواخر أيام الحصار إلى ذبح «بغل عليوة» الذي كان يستخدم لجمع النفايات ونقلها، وصنعوا منه «سجق»! كل هذا كان مقدوراً عليه، الجوع والذخيرة الناقصة، إلا السيجارة. فقد وصل الأمر ببعض المدخنين إلى تدخين الشاي وأعشاب يابسة. وعندما كان الغاز ينفد «كنا نشعل تحت القنينة حطباً، ونبقيها ساعة ثم نستعملها وقد تستمر لأسبوع، أما البطاريات فكنا نعضّ رأسها بأسناننا فتخدمنا يومين».
الذهاب إلى غزة. حلم يقظة تراه في عيون المقاتلين السابقين. فهناك، النضال يأخذ كل معناه. يتذكر أبو جلدي بحسرة الحكيم جورج حبش، الأمين العام للجبهة الشعبية وضميرها، عندما قال لأبي عمار خلال الاجتياح «كنا ندفع الملايين ونمشي أميال منشان نقتل الإسرائيليين، هادول الإسرائيليين إجوا لعندنا، خلينا نقتلهم». و«لكننا لم نقتلهم»، يضيف أبو جلدي بأسى، خاتماً «وهياهن بيقتلونا بنص أرضنا».