القاهرة ــ وائل عبد الفتاح«يبقى نحارب بقى»، سائق التاكسي نظر في المرآة وهو يختصر رغبته بعد جملة طويلة: «ما دمنا تعبانين في السلام يبقى نحارب». السائق كان مرتبكاً بعض الشيء: «لكن حانحارب ازّاي؟ أنت شايف إللي بيحصل في غزة، وبعدين حماس قتلت من عندنا ضابط».
تَغيُّر موقف السائق لم يستغرق دقائق محدودة، انتقل فيها بين موقفين متطرفين «طلب الحرب» و«المزايدة على تكلفة الدور المصري». إنها تقريباً المسافة بين خطاب إعلامي رسمي يلحّ على البرودة وإحساس عفوي بالغضب من مجازر ضد «أهلنا في غزة».
الخطاب الرسمي حنون وهو ينقل خبر إصابة ضابطين مصريين بشظايا القذائف الإسرائيلية على رفح الفلسطينية. نشرها كخبر عادي أو كارثة قدرية خلت تماماً من تفاصيل، مثل خطورة إصابات الضابطين في الرأس والظهر أو اختراق الطائرات الإسرائيلية المجال الجوي المصري.
يبدو أن صياغة الخبر تمت بمزيلات الإثارة وبعناصر مهدئة مريحة للعواطف الفالتة. كأنه خطأ صديق لا يحتاج حتى إلى عتاب أو لوم في إطار القنوات العادية.
أما أخطاء «حماس» فهي ذنوب لا تغتفر. والضابط المقتول خطأً في مشادات على الحدود تحوّل إلى شهيد رفيع المستوى سقط على يد «العصابات الإرهابية». وتفنّنت الصحف الناطقة باسم النظام في رسم صور مأسوية للضابط وتفانيه في العمل من دون سلاح، من دون أن تسأل عن معنى وقوفه من دون سلاح. ووزعت جهات عليا في الدولة مادة خاماً لأساطير جعلت من «شهيد الحدود» أقوى من صائد الدبابات وعلامة على التضحية في مواجهة «ميليشيات الإرهاب».
تحوّل الضابط إلى أسطورة تحتل الصفحات الأولى من صحف نظام مبارك. وحاربت جهات رسمية من أجل ترويج لقب «الشهيد» في إطار الحصول على مساحة من عواطف غاضبة ومحتقنة في الشوارع.
قصة الشهيد توجيهية. ترسم خريطة أعداء جدد. وتسيطر على غضب خارج سيطرة الدولة.
هذا رغم أن المصريين يغضبون من حكامهم، لكنهم لا يتحملون نقدهم من الآخرين. شوفينية خفيفة، لكنها لم تمنع أبداً من التفاعل بقضايا خارج حدود مصر.
أسطورة الضابط المقتول كانت رداً على كلام عن شراكة مصر في ضرب غزة. كلام لم يعرف الجمهور الغاضب صدقيته أو حجم الشراكة أو نوعها، لكنه شعر بنوع من التواطؤ. أسبوع، ونظام مبارك مرتبك يتصرف بانفعال دفاعاً عن صورته، نافياً التورط أو الشراكة. والإعلام يخترع الأساطير عن شهداء مصريين من «حماس» وتحالفات ومؤامرات ضدّ مصر.
قصة الشهيد هي بهارات عاطفية لحملة «الحرب على مصر»، التي غطت انقلاب التحالفات وتغيير المواقع. وكان من الطبيعي أن تحدث عملية تبريد عواطف في «التجاوزات الإسرائيلية».
القصة كما خرجت من صحافة النظام باردة ضمن خطة السيطرة على «المشاعر وإعادة ترسيم الأعداء والأصدقاء».
وكأن صحافة النظام اعتبرت شظايا المدفعية الإسرائيلية «نيراناً صديقة»، كما لاحظ فهمي هويدي في عموده اليومي في «الدستور». وكأن الخروج من التحالفات القديمة يستدعي كل هذه السرية والتخطيط باتجاه برمجة جديدة للمشاعر عبر «حرب صور» أكبر قليلاً من فكرة «أسد عليَّ وفي الحروب نعامة».
يبدو أن مصر ستدفع فاتورة حرب لم تحارب فيها. ستدفعها بأشكال مختلفة. بدايةً من انقلاب مواقفها وتحالفاتها في المنطقة، ونهايةً بتخليها عن الأخلاق حين وافقت بطريقة أو بأخرى على سحق «حماس». ربما لم تتخيل مصر النتيجة المأسوية، لكنها استسلمت لغضبها وقررت الدخول، ولو رمزياً، في حلف إعادة المقاومة إلى صورتها المهذبة.
ربما يكون نظام مبارك «عاقلاً» في نظر كثيرين، لكنها عقلية أمنية باردة تقود إلى الارتباك والحيرة (من سائق التاكسي إلى أكبر سياسي في الدولة).
هل من مصلحة مصر موت المقاومة؟ وهل هناك تعارض الآن بين مصلحة مصر (في الحفاظ على مقاومة تربك الجارة الشريرة إسرائيل) ومصلحة نظام مبارك في التخلص من «حماس» التي تعتبر، بشكل أو بآخر، الصورة المسلحة من «الإخوان المسلمين»؟
نظام مبارك يبحث عن دور «المنفذ». تسانده الجغرافيا، فهو يدير دولة في قلب الصراع المشتعل وعلى الحدود مع النقطة الساخنة (فلسطين وإسرائيل). والتاريخ (مصر لها جسم كبير ممتد عبر طموحات الدولة المحورية من محمد علي إلى جمال عبد الناصر). إلى أيّ حد ستكون يد «المنفذ» حرة في تنفيذ المطلوب منها؟ «اليد المنفذة» هي الدور المتاح أمام نظام مبارك.