نزيه أبو عفش
بين شوطين

بعد جهود حثيثة، مدعّمة بآلامِ آلاف المصابين والموتى، تمكّن هواةُ «السلام المؤقت» من الوصول إلى هدنة إنسانية لثلاثِ ساعاتٍ.. كاملة.
«عظيم! أكثر من عظيم...»: صاحوا يهنئون أنفسهم، صنّاع السلام الأوفياء، الذين يسكنون «فوق..» في أعلى الخارطة.
الذين يواصلون موتهم على ذاك الجانب من الميدان، قالوا: شكراً! ربما يكون الوقت كافياً لتجفيف الدموع والتزوُّد بالخبز، ودفن روائح الموتى.
الذين على الجانب الآخر، تأفّفوا ليس قليلاً. لكنْ عادوا وفكّروا:
ليس سيئاً. ليس شديد السوء.
يمكننا الاستحمام، وإعادة تنظيف الأسلحة.
المتفرّجون (أعلى وأسفل الخارطة) قالوا:
لمَ لا؟...
هم يستريحون، ريثما يستعيدون لياقتهم الميدانية، ونحن أيضاً، نرتاح من عناءِ مطاردةِ نشرات الأخبار..
ونتهيّأ لمتابعة أحداث الشوط الثاني.

مخنَّثو السلامقالوا لنا: الحرب ستستمر أعواماً طويلة.
قلنا: «خَيّْ!...». أمامنا أعوام طويلة نَجْلسُها قدّام الحرب في الليالي..
أعوام طويلة، نجلسها دونما ضجر، ونتسلّى بالتفرّج على الحرب.
الآن، يعودون ليقولوا لنا: ستنتهي الحرب. اليوم مساءً، أو غداً على أبعد تقدير، ولضروراتٍ يصعبُ شرحُها، ستنتهي الحرب.
أيُّ عالمٍ حقيرٍ هذا؟!..
أيُّ حكّام عالمٍ حقيرين هؤلاء؟!..
أيُّ قَرَفْ؟!..
...
...
بالله عليك يا ربّي:
ما الذي يمكن أن يفعله ناسٌ بلا حرب؟
الحرب مسليّة. الحرب مثيرة. الحرب ــــ أكثر من كونها حرباً ــــ تقوّي القلوب الخائرة، وتخفّف من ركاكة الحياة، وتُسرِّعُ حركةَ «المَكَنات» الخلاّقة، وتجعلنا ــــ نحن أصحابُ الأدمغة الشجاعة ــــ نفكر، بعقلانيةٍ أكبر، في الكوارث الاقتصادية التي ستجرّها علينا حماقةُ السلام.
«كثُرَ الموتى»: يقولون لنا.
بالله عليك:
يكثرُ الموتى.. أو تكثرُ قذارةُ الشحّاذين؟
: أيّهما أفضل؟!..
...
فعلاً، هو عالمٌ حقير. حقيرٌ وعديم الرأفة.
تخيّلوا:
بدءاً من مساء غد، سنجلس هكذا:
وحيدين كالناس الوحيدين
يتامى كسائر الناس اليتامى
نأكل أظافرنا من الضجر
ونبدأ نشيخ.. نشيخ.. نشيخ بلا هوادة
وننتظرُ عودةَ الحربْ.
...
...
بصراحة؟..
أولئكَ المخنّثون، دُعاة السلام،
تنبغي إبادتهم.

الموت بطريقة محرّمةيخطئُ مرّة.. فيخطئ أكثر.
يموت مرّة.. فيموت أكثر.
بعد كلّ مرّة يموتُ فيها... يُحكم عليه بالموت مرّة أخرى
لأنه، في المرّة التي سبقتها،
مات بطريقة سيئة
: طريقة غير لائقة
: طريقة مخالفة للقانون.

أطفالُ الضجر

صدّقوني.. يستحقون الشفقة، أولئكَ الأطفال الذين يعيشون في بلادِ «هناك». ليس لديهم ما يفعلونه غير الأكل، والشرب، والتنزُّه السخيف، وقتلِ الأوقات الفائضة بشراءِ ما لا يُحتَاجُ إليه من الألعابِ والألبسة وتُرّهاتِ التكنولوجيا...؛ ثم: الضجر، الضجر الكبير، الضجرُ الذي لا يُداوى؛ الضجرُ الناجم عن الرخاء، والعافية، وكثرةِ السعادةِ، وانعدامِ ما يمكن اشتهاؤه، والافتقارِ إلى متعةِ الخوف:
ضجرُ السلام.

المحرومون من «الحرب»«ماما! لماذا في بلادنا لا يوجد حرب؟».
.. وراح يبكي.
...
فعلاً، بلادٌ غير قادرةٍ على إسعاد أطفالها.
: بلاد مضجرة.