لحظات ويقضي القصف الإسرائيلي على ما بقي من علاقة الغزّاوي بماضيه، بمجرد أن يتحول إلى نازحٍ، يبحث عن مأوى مؤقّت لحياته المؤقتة. وإذا حاول أن يعيش ويُبقي على أنفاسه، فسيركض تحت الصواريخ بحثاً عن نقطة ماءلجأ بعض الفلسطينيين إلى منازل أقربائهم، وأحياناً إلى مدارس تابعة للأمم المتحدة، بحثاً عن أمان لم تدع الطائرات الإسرائيلية له مكاناً في قطاع غزة. إلّا أن كثيرين عجزوا عن إيجاد مكان يذهبون إليه، ومنهم جواد حرب، الذي اختار النوم في العراء والصقيع.
قال حرب، وهو يستمع إلى القنابل غير البعيدة عن مكان وجوده، إن «الضربات الإسرائيلية مستمرة على طول الحدود مع مصر، وفضلت نحو ستين عائلة تقيم على بعد مئات الأمتار من الحدود، الهرب من منازلها»،
وإلى جانبه كان الأطفال يصرخون مع كل انفجار، فيما كان حرب يتابع سرد معاناته: «نقيم على بعد 500 متر من الحدود، وهذا يعني أننا أيضاً على خط الجبهة»، مضيفاً «إنه لجأ وعائلته إلى أقرباء له يقطنون حياً آخر في رفح، بعدما تعرض منزلي لتدمير جزئي». وحين صار المكان مزدحماً، كان العراء هو الخيار الوحيد: «علينا أن نبيت ليلتنا في الهواء الطلق. الطقس بارد أصلاً وسيزداد برودة ولا وسائل تدفئة لدينا». وتابع بيأس «لا أجد كلمات لأصف الوضع الذي أنا فيه».
وعادة ما تسهم المناشير التي تلقيها المقاتلات الإسرائيلية معلنةً استئنافها لعمليات القصف، في دفع الفلسطينيين إلى مغادرة منازلهم. ولشدة الذعر بالكاد يجد هؤلاء وقتاً لحمل بعض البطانيات والمواد الغذائية، حتى لا تغدر بهم القذائف، مخلّفةً سُحباً من الغبار والدخان الأسود.
وفي منطقة «أم المهد» في بلدة عبسان الجديدة في خان يونس جنوب القطاع، هدمت آلة الحرب الإسرائيلية بيوت أحمد أبو طعمية وإخوته الخمسة، لتمسح بأقل من دقيقة شقاء عمرهم، وتشرّد 45 طفلاً هم أبناء هؤلاء الإخوة الستة. هجرت هذه العائلة بقايا بيتها، وخلال عودتها التفقدية، عثرت على خرائط لجيش الاحتلال، كانت قد وضعت للتطبيق خلال الاجتياح البري.
وعلاوة على التشرد الفجائي، يجد الفلسطينيون أنفسهم في حاجة إلى البحث عن قشة البقاء. ويخشى عبد الخطيب على حياته من القصف الإسرائيلي كلما حاول الخروج من منزله للحصول على مياه الشرب لعائلته التي تفتقر إلى المياه والكهرباء، منذ بدء العدوان على قطاع غزة قبل 19 يوماً.
وغالباً ما يستغل الخطيب (33 عاماً)، وهو من سكان حي الزيتون شرق مدينة غزة، هدنة الساعات الثلاث اليومية التي بدأ الجيش الإسرائيلي تطبيقها الأسبوع الماضي، للبحث عن مياه الشرب لتوفيرها لعائلته وأطفاله الثلاثة. ويضيف «نبحث عن قطرة المياه في الوقت الذي تطلق فيه الدبابات قذائفها علينا، لكننا نريد أن نعيش وأن تستمر الحياة».
ويتابع الخطيب «نحن غير قادرين على تدبير أمورنا، لا نستطيع أن نغسل الملابس ولا نستطيع أن نستحم»، موضحاً أنه «يرسل أولاده لتعبئة مياه الشرب من قرب مدرسة المجدل التي تبعد عن منزله نحو كيلومتر واحد». ويضيف «نعبّىء المياه بالغالونات على عربة».
أما محمد عابد (35 عاماً)، وهو من سكان حي الرمال غرب مدينة غزة، فيقف في طابور للحصول على مياه الشرب، ويقول «جئنا لنملأ غالونات مياه لنشرب منها في المنزل. المياه لم تصل إلينا منذ أكثر من أسبوعين». ويضيف عابد «نعبّىء المياه في وقت القصف. إنه خطر كبير بالنسبة إلينا لكننا نقبل المجازفة من أجل أن نعيش».
ولا يستطيع كامل الحمامي القاطن في منطقة الزيتون، التي تشهد هجوماً إسرائيلياً عنيفاً منذ بدء الهجوم العسكري البري، الحصول على المياه. ويقول «عندي أكثر من عشرين شخصاً ولا أستطيع أن أوفر لهم المياه. وضعنا صعب».
وفي السياق، أعلن مسؤول بلديات الساحل في قطاع غزة، منذر شبلاق، أن «أكثر من 800 ألف نسمة من سكان قطاع غزة أصبحوا من دون مياه، منذ بدء الهجوم الإسرائيلي على القطاع غزة في 27 كانون الأول الماضي»، موضحاً «لا نستطيع توفير نقطة مياة واحدة للناس المحاصرين، وحتى لغسل الموتى في المناطق المحاصرة، شرق الشجاعية وشرق جباليا وشرق الزيتون، وهي أكثر المناطق تضرراً».
حان دور عطاف عبد الرحمن. حكت الكثير. «المتاجر خالية. إلا أن بعض البقّالة في حي النصر المكتظ بالسكان، الواقع في وسط مدينة غزة، تبيع الليمون والبصل فقط». واستطردت «الكهرباء مقطوعة منذ أربعة عشر يوماً على التوالي. وخلال فترة وقف إطلاق النار القصيرة، يهرع الناس إلى مستشفى الشفاء أو إلى المساجد التي توجد فيها مولّدات كهربائية لشحن هواتفهم المحمولة». على الأقل، ليُحصوا الشهداء...
(رويترز، أ ف ب، معا)