القاهرة تستضيف الفصائل وتسعى إلى تهدئة لعام أو اثنين■ الاحتلال يرى وقف النار «هشّاً» ويحذّر من مواجهة في الشمال
■ هنيّة يعلن تحقيق «الانتصار» ويدعو إلى استثماره في المصالحة

انقشع غبار العدوان مؤقّتاً ليكشف عن حجم المأساة في غزة، من دمار وجثث. وقف إطلاق نار هش ينتظر الاتصالات الماراتونية لتثبيته، ستقوم مصر بالجانب الأكبر منها، وسط توقّعات بتدخل دولي لـ«ضمان الحدود» ومنع التهريب... لحصار المقاومة

القدس المحتلة، القاهرة، غزة ـ الأخبار
... وبعد اثنين وعشرين يوماً من القتل والدمار، فرغت إسرائيل من صبّ حمم «رصاصها المصهور» فوق قطاع غزة، معلنة تحقيق الأهداف التي شنّت «العملية العسكرية» من أجلها. أنهت إسرائيل عدوانها مهجوسةً بالحرص على تقديم إعلان وقف إطلاق النار من طرف واحد بوصفه انتصاراً تتجاوز الإنجازات التي تحققت فيه ما كان متوقعاً عند إصدار أمر العمليات ليل السابع والعشرين من كانون الأول الماضي. حرصٌ بدا واضحاً أنه يهدف إلى التغطية على تساؤلات اليوم التالي التي بدأت الساحة الإسرائيلية تشهدها فور صمت المدافع، وتدور حول حقيقة ما أُنجز في ضوء جملة من الوقائع أهمها: بقاء «حماس» سلطة حاكمة في غزة، استمرار حيازتها، وبقية فصائل المقاومة، القدرة الكافية على استئناف الضربات الصاروخية وغير الصاروخية لإسرائيل، عدم التمكن من إخضاعها سياسياً عبر الموافقة على تسوية بشروط إسرائيلية، بقاء الجندي جلعاد شاليط في قبضة الحركة الإسلاميّة، الإقرار الضمني، الذي صرّح به أمس رئيس الشاباك يوفال ديسكين، بقدرة المقاومة على إعادة تسليح نفسها خلال أشهر إذا لم تعزّز إسرائيل العمل على ضرب الأنفاق.
الوقائع تظهر أن وقف النار الإسرائيلي كان خيار الضرورة، وأنه جاء نتيجة يأسٍ من تثمير مجريات الحرب سياسياً وخشيةٍ من الانتقال إلى المرحلة الثالثة عسكرياً.
وأسند رئيس الوزراء الإسرائيلي، إيهود أولمرت، وقف النار إلى ثلاثة «إنجازات» رئيسية هي: توجيه ضربة قاسية لحركة «حماس» مقاومةً وسلطةً، ترميم قدرة الردع الإسرائيلية، وإبرام تفاهمات دولية لمكافحة تهريب الأسلحة إلى القطاع. إلا أن الاتجاه السائد في إسرائيل يميل نحو اعتبار الأسابيع والأشهر المقبلة فترة اختبار لجدية هذه الإنجازات، وخصوصاً في ظل التسليم بحقيقة أن «الكرة الآن في ملعب حماس»، التي فاخر أولمرت بإقصائها عن مشهد التفاهمات، مُغفلاً رهانه وحكومته على تمكّن المصريين من بلورة اتفاق معها وانتظاره حصول ذلك حتى اللحظات الأخيرة قبل وقف النار.
وإذ بقيت قضية المعابر الغائب الأبرز عن بيانات النصر الإسرائيلية، فإن وسائل الإعلام العبرية أجمعت على وجود نيّة لدى قادة تل أبيب لربط فتحها بقضية الجندي شاليط لجهة مساومة «حماس» على خفض عدد الأسرى «الإشكاليين»، الذين تطالب بإطلاق سراحهم في إطار صفقة التبادل.
ووسط توقّع أن يمثّل وقف النار إيذاناً ببدء سجال إسرائيلي داخلي بشأن النتائج الفعلية لعملية «الرصاص المصهور»، فإن ما هو واضح أن قادة العدوان لن يزهدوا باستخدام أي شيء في معركتهم الداخلية المقبلة، ومن ذلك تظاهرة الزعامات الأوروبية التي كان منزل رئيس الحكومة الإسرائيلية مسرحاً لها أمس.
وسعى أولمرت من وراء استضافة القادة الأوروبيين الستة إلى تأكيد البعد الدولي للإنجازات التي حققها، وخصوصاً في ما يعني مكافحة التهريب. واستغلّ المناسبة ليعلن خروج قواته من القطاع «في أسرع وقت ممكن».
وكان أولمرت قد أعرب في وقت سابق عن أمله بنجاح وقف إطلاق النار الذي وصفه بالهش، متوعداً «المنظمات الإرهابية الفلسطينية» برد عنيف وحازم، إذا استأنفت هجماتها باتجاه «الأراضي الإسرائيلية»، وسط حديث الأجهزة الأمنية الإسرائيلية عن إمكان ترميم «حماس» لقدراتها العسكرية خلال أشهر، والتشديد على جهوزية جيش الاحتلال لأي تطور على الحدود الشمالية.
وقال أولمرت، في مستهل جلسة الحكومة الإسرائيلية أمس، إن الدولة العبرية تدرك أن وقف إطلاق النار لا يزال هشاً، وبالتالي «يجب العمل على متابعة التطورات دقيقة بعد أخرى»، مؤكداً أن «الجيش الإسرائيلي جاهز ومستعد لأي سيناريو، وقد صدرت إليه التعليمات بالرد الحازم إذا ما استدعت الحاجة ذلك، لأن عناصر حماس يسعون إلى إطلاق النار بأوامر من طهران».
وكانت وسائل الإعلام الإسرائيلية قد تحدثت أمس عن تفاهمات سرية بين إسرائيل ومصر تتعلق بمكافحة تهريب الأسلحة إلى القطاع. وفيما أشارت القناة العاشرة في التلفزيون الإسرائيلي إلى أن تل أبيب تعهدت بعدم الإعلان عن تفاصيل هذه التفاهمات خشية إحراج النظام المصري، فإن وكالة «رويترز» نقلت عن مسؤولين إسرائيليين قولهم إن تل أبيب تدرس اقتراحاً مصرياً بزيادة عدد الحراس على الحدود مع قطاع غزة كجزء من الجهود المكثفة لمنع «حماس» من إعادة التسلح.
ومن المعلوم أن اتفاقية السلام المصرية ـــــ الإسرائيلية تحدّد عدد القوات التي يسمح للقاهرة بنشرها على الحدود مع إسرائيل بـ750 شرطياً من حرس الحدود. وقال المسؤولون الإسرائيليون إن قضية زيادة حرس الحدود المصريين أثيرت مع إسرائيل في محادثات بشأن إنهاء الهجوم العسكري على غزة، وأشاروا إلى أن «القضية لم تمثل مشكلة في المحادثات». كما كشفوا أن مصر وإسرائيل تناقشان أيضاً إقامة تحصينات جديدة، بينها جدار تحت الأرض وتكنولوجيا للكشف عن الأنفاق على الجانب المصري من الحدود. وأضافوا أن «مصر وافقت على عمل المزيد» لوقف تهريب الأسلحة تحت الحدود، غير أنهم رأوا أن «من غير المرجح ألا تمنع القاهرة إعادة بناء الأنفاق التجارية».
وفي السياق، ذكرت صحيفة «يديعوت أحرونوت» أن مصر تعهدت لإسرائيل بالحفاظ على «الوضع القائم» في معبر رفح، في إشارة إلى الالتزام بتطبيق اتفاقية المعابر التي وقعت عام 2005 بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل بوساطة أوروبية. وأوضحت أن المبادرة المصرية للتهدئة تتضمّن فتح معابر قطاع غزة مع إسرائيل للحالات الإنسانية فقط، من دون أي التزامات أخرى، الأمر الذي رفضته فصائل المقاومة الفلسطينية. وأكدت الصحيفة أن إعلان الحكومة الإسرائيلية وقف إطلاق النار من جانب واحد، يعدّ عملياً قبولاً للمبادرة المصرية.

مبادرة مصر

في المقابل، يرى مراقبون في القاهرة أن قرار إسرائيل وقف إطلاق النار مرتبط بحرص الدولة العبريّة على علاقات سلسة منذ البداية مع الرئيس الأميركي الجديد، باراك أوباما، وهي بالتالي راغبة في إنهاء القتال قبل توليه الرئاسة غداً الثلاثاء. ويضيفون أن أولمرت اختار «تفادي إبرام اتفاق تفاوضي مع حماس ووقف إطلاق النار فقط، ليحرم الحركة الإسلاميّة من الاتفاق الذي كانت تسعى إليه بشأن تخفيف الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة».
وقالت مصادر مصريّة مسؤولة، لـ«الأخبار»، إن القاهرة وجّهت دعوات رسمية إلى مختلف الفصائل الفلسطينية البالغ عددها 14 تنظيماً لإجراء مشاورات مكثفة في القاهرة مع رئيس الاستخبارات المصريّة اللواء عمر سليمان وكبار مساعديه، لدراسة ورقة عمل تعكف جهات مصريّة حالياً على إعدادها بشأن كيفية التوصل إلى هدنة دائمة لوقف إطلاق النار وإنهاء الحصار على غزة وفتح المعابر.
وكشفت المصادر النقاب عن أن مصر ستنقل إلى اسرائيل في مرحلة تالية ما ستتفق عليه الفصائل الفلسطينية مجتمعة للحصول على ردّها النهائي قبل إعلان ساعة الصفر على غرار ما حدث في الهدنة التي نجح اللواء سليمان في التوصل إليها لمدة ستة شهور خلال العام الماضي بين الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي.
وأوضحت المصادر أن مصر ترغب في اقتراح هدنة لمدة عام أو عامين، يتم خلالها إبرام صفقة لتبادل إطلاق سراح المئات من الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، في مقابل إطلاق سراح الجندي الاسرائيلي الأسير جلعاد شاليط. وشدّدت على أن فتح معبر رفح بين مصر والأراضي الفلسطينية مرهون بأمرين: إما تراجع «حماس» عن سيطرتها على القطاع وتسليم الإشراف على المعبر إلى السلطة الفلسطينية بقيادة محمود عبّاس (أبو مازن) أو الاتفاق بين «فتح» و«حماس» على تأليف حكومة وحدة وطنية جديدة يعهد إليها الإشراف على المعبر وكل الترتيبات المتعلقة به. ولفتت إلى أن مصر لن تقبل بأي صيغة أخرى مخالفة لما أبرم بين السلطة الفلسطينية والاتحاد الأوروبي وإسرائيل عام 2005، مؤكدة أن مصر رسميّاً لا تعترف بسيطرة «حماس» على قطاع غزة، وتعتبره في المقابل «انقلاباً غير دستوري وغير شرعي».

شرم الشيخ

في هذه الأثناء، سعت القاهرة إلى استعادة الدور واحتواء مذكّرة التفاهم الأميركية ـــــ الإسرائيلية التي أثارت امتعاضاً مصريّاً عبّر عنه الرئيس حسني مبارك ووزير خارجيته أحمد أبو الغيط. احتواء تمّ عبر استضافة شرم الشيخ قمّة دوليّة، كان لافتاً الغياب الأميركي عنها، لدعم الجهود المصريّة لوقف إطلاق النار. قمّة خرجت بمعادلة «الانسحاب الإسرائيلي مقابل وقف إطلاق الصواريخ»، في اختزال لمطالب «حماس» التي تريد الانسحاب وفتح المعابر ورفع الحصار في مقابل وقف الصواريخ.

قرار وقف النار

وبالعودة إلى إعلان وقف النار، فقد قرر المجلس الوزاري المصغر للشؤون الأمنية والسياسية ليلة السبت الأحد وقفاً لإطلاق النار من جانب واحد، دخل حيّز التنفيذ الساعة الثانية فجر أمس، على ان يبقى الجيش الاسرائيلي منتشراً في محيط قطاع غزة.
وأعلن أولمرت، في كلمة ألقاها عقب انتهاء الجلسة، ان «اسرائيل حققت اهدافها من الحرب على غزة، والمتمثلة في القضاء على قدرة حماس العسكرية والسلطوية، وربما اكثر من ذلك، إذ تلقت قدراتها ضربة كبيرة وستؤثر على سلطتها وحكمها لفترة طويلة»، مشيراً الى أن «اسرائيل اتفقت مع مصر على ترتيبات تضمن تقليص تهريب الاسلحة لحماس، فيما تعهد قادة اوروبا بالعمل على منع وصول الاسلحة الى غزة، اضافة الى توقيع مذكرة تفاهم مع الولايات المتحدة، لمنع تهريب الاسلحة الى القطاع». وشدد على أن «حركة حماس ستفاجأ اذا خرقت اطلاق النار، لان الرد سيكون اكثر ضراوة، لكن اذا قررت وقف هجماتها وقفاً تاماً، فسنرى في اي وقت نغادر غزة».
وأوضح اولمرت أن «كل المناطق التي تطلق منها الصواريخ باتت تحت سيطرة القوات الإسرائيلية، وتم تدمير كثير من مخازن السلاح وممرات تهريبها»، مشدّداً على أن «الهجوم عزز القدرة على ردع الذين يهددون اسرائيل، فقادة حماس يختبئون، وقتل الكثير من عناصرها».
من جهته، قال رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان)، عاموس يادلين، خلال جلسة الحكومة الاسرائيلية، أمس، إن «حكم حماس في قطاع غزة تلقى ضربة قوية»، مشيراً إلى أنهم «بعد أن يخرجوا من الأنفاق (أي مسؤولو حماس)، سيصابون بالعمى، فقد قُتل قادة ومئات من الناشطين» من الحركة، مدعياً أن «حماس تخفي حجم خسائرها الحقيقي». وتحدث يادلين عن نجاح اسرائيلي على الساحة الدولية والاقليمية، وتحديداً لجهة مصر، إذ «ادركوا ان مشكلة تهريب السلاح هي مشكلة دولية». لكنه شدد على أن «اسرائيل تفتح عيناً استخبارية وأخرى عملياتية على الحدود الشمالية»، في اشارة الى جهوزية اسرائيل لمواجهة امكان تسخين الجبهة مع حزب الله.
بدوره، رأى رئيس اركان الجيش الاسرائيلي غابي اشكنازي أن «حماس تلقت ضربة قاسية في كل قدراتها، رغم ان هذه القدرات لم تختف»، لكنه شدد في الوقت نفسه على أن «عملية الجيش في قطاع غزة لم تنته بعد، ويجب مراعاة درجة عالية من اليقظة والتأهب لحين عودة الهدوء إلى مدن وقرى منطقة الجنوب»، مضيفاً في رسالة موجهة إلى جنود وضباط الجيش الاسرائيلي «أنه تم تحقيق جميع الأهداف من العملية في قطاع غزة». ورأى أن «الظروف اصبحت مهيّأة أيضاً لحدوث تغيّر جذري في الواقع الامني في المنطقة الشمالية، والجيش الاسرائيلي مستعد لمواجهة اي تطور محتمل» هناك.
وفي السياق نفسه، قال رئيس جهاز «الشاباك» الاسرائيلي، يوفال ديسكين، ان «حماس تضررت كثيراً لكن لا تزال لديها القدرة على اطلاق الصواريخ باتجاه اسرائيل»، مشدّداً على أن «حماس تخفي خسائرها كي لا تضر بمعنويات نشطائها، بل إنهم يخفون ايضاً هوية كبار المسؤولين لديهم، ممن اصيب او قتل في المواجهات». وقال إنه «إذا لم تعزّز اسرائيل العمل على ضرب الأنفاق، فإن الوضع سيعود الى سابق عهده، وستعيد حماس تسليح نفسها خلال أشهر».
أما بخصوص الوضع الجديد في غزة في اعقاب الحرب، فأشار ديسكين الى ان «الجمهور الفلسطيني في غزة ينتقد بقسوة حماس بسبب تدمير القطاع، لكن السؤال إلى أي حد يمكن للسكان ان يترجموا انتقاداتهم، وهو ما لا يمكن توقّعه بسبب الخشية من استبداد حماس وانتقامها»، مضيفاً أن «هناك تخبطاً داخل قيادة حماس في غزة وفي الخارج، فهي لم تقدّر أن اسرائيل ستشنّ عملية عسكرية في فترة انتخابات، وبهذا الشكل من الدخول الى غزة».

موقف المقاومة

اتفقت فصائل المقاومة الفلسطينية، باستثناء الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، على وقف لإطلاق النار ومنح إسرائيل مهلة أسبوع لسحب قواتها من قطاع غزّة. وقال نائب رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس»، موسى أبو مرزوق، في بيان تلاه خلال مؤتمر صحافي حضرته فصائل المقاومة الأخرى، «نعلن نحن فصائل المقاومة الفلسطينية وقف إطلاق نار في غزّة، ونؤكد مواقفنا ومطالبنا بسحب قوّات العدوّ في غضون أسبوع، وفتح كل معابر الحدود من أجل السماح للمساعدات الإنسانية والمواد الأساسية بالدخول إلى القطاع».
وفي وقت لاحق، أعلن رئيس الحكومة الفلسطينية المقالة، إسماعيل هنية، في كلمة متلفزة ألقاها أمس، أن «الشعب الفلسطيني حقق نصراً عزيزاً في مواجهة إسرائيل في قطاع غزّة». وقال «لقد وهبنا الله نصراً عزيزاً، ليس انتصاراً لفصيل أو حزب أو منطقة، بل انتصار شعبي».
وأضاف هنية «هو انتصار أممي، وهو بذلك انتصار إنساني للصدق والحق». ورأى أن الفلسطينيين نجحوا في «وقف العدوان»، وأنّ «العدو فشل في تحقيق أي من أهدافه». وأعلن أن الحكومة ستقدّم مساعدات عاجلة للذين تضرّرت منازلهم. وشدّد على ضرورة «استثمار الانتصار في تحقيق المصالحة الفلسطينيّة».