على طول الطريق المؤدية إلى بيت لاهيا في قطاع غزة، بدأت الحياة تستعيد نبضها ببطء. عاد بعض باعة الزيوت والوقود الجوالين. فتحت بعض المتاجر أبوابها، حتى إن أحد محالّ الحلاقة استقبل أول زبون له منذ إعلان وقف إطلاق الناريبث جهاز الراديو داخل إحدى سيارات الإسعاف المارة في المنطقة أصواتاً غير واضحة. يطلب عامل الإسعاف عبد من زميله بسام التوقف أمام أحد الكاراجات: «سنترك السيارة هنا، لأن الطريق لا يمكنها سلوكها».
يسلك الرجلان طريقاً زرعها الجيش الإسرائيلي بالقنابل. ويتكرر أمام أعينهما هذا المشهد: في كل مكان، يبحث رجال ونساء وأطفال عن أشيائهم وسط ركام البيوت المدمرة. يحملون حقائب وبطانيات وأثاثاً على ظهور دواب، أو مستعينين بعربات خشبية، وأحياناً سيراً على الأقدام.
تقول نجاة مناح، وهي أم لثلاثة أطفال تحمل علبة من الأرز عثرت عليها بين ركام منزلها: «لم يعد لي منزل. خسرت كل شيء».
أما ابنتها سميرة (20 عاماً)، فتقول مبتسمة وكأنها تعلن انتصاراً ما: «نجحت في إنقاذ جزء من دروسي».
حال نجدي سلام (53 عاماً) لا تختلف عن نجاة. عبثاً يحاول التنقيب في الركام عن شيء يؤرّخ للمجزرة. يقول إن «الجنود الإسرائيليين أتوا على كل شيء، ولا أدري من أجل ماذا.
لقد دمروا المنازل ثم سوّوها أرضاً بواسطة جرافاتهم. ثمة جثث كثيرة لفلسطينيين لن يُعثَر عليها».
على هضبة صغيرة، يقف عبد لمعاينة مشهد مؤلم. أعداد لا تحصى من البيوت تحولت إلى كومة حجارة وحديد، بعدما كانت بالأمس القريب حياً يقطنه أكثر من خمسين ألف شخص. يناديه رجل ويرشده إلى أنقاض. يتبعه عبد وينحني ثم يكم أنفه. «ثمة جثث هنا. سأبلغ عن الأمر»، مضيفاً: «لن نعثر عليهم جميعاً، يا للأسف».
وفي حي الزيتون في مدينة غزة، قال يحيى كريم، أمام كومة من الركام: «لا يوجد منزل هنا. هذا كان بيتي»، مضيفاً: «أسأل رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت: لماذا دمرتم منزلي؟ أنا لست من حماس، ولا أنتمي إلى أي طرف سياسي. أنا مدني، أريد السلام».
حرب غزة هذه أعادت الكثيرين إلى أيام النكبة. قصص حملها أطفال الماضي من أجدادهم، من تشريد وإبادة، ها هي تتكرر اليوم أمام عيونهم. الصدمة ترتسم فوق ملامحهم. لم يستطع أحمد إبراهيم (28عاماً) الكلام. بقي الصمت سيد الموقف. بدأ يتنقل بين ركام منزله في منطقة الكرامة التي حولته الدبابات إلى أكوام من الحجارة.
سريعاً، مََثلت أمام أحمد، الذي لم يمضِ على زواجه ستة أشهر، ذكريات التشريد والمجازر التي وقعت في عام 1948، والتي طالما سمع عنها من والده وجده على مدار أيام عمره، ليؤكد وحشية دولة الاحتلال ودمويتها.
ويقول: «هذا هو قدر الشعب الفلسطيني، أن يضحي بكل ما يملك من أجل تحرير أرضه وقدسه»، مؤكداً أن «الاحتلال بقصفه للمنازل وقتله للمدنيين، لا يستطيع أن يكسر صمود الشعب، الذي بات أكثر إصراراً على نيل حقوقه واصطفافه إلى جانب المقاومة».
وليس بعيداً عن منزل أحمد، لم تتمكن عشرات العائلات الفلسطينية في منطقة عزبة عبد ربه وجبل الكاشف والريس، من التعرف إلى مكان منزلها بعدما دفنته الجرافات الإسرائيلية بكل محتوياته تحت التراب، وغطته ببقايا القذائف والصواريخ المنتشرة.
أخذ المواطنون يستخدمون آليات بدائية للبحث عمّا بقي من ذكريات أعدمتها آلة الحرب الإسرائيلية في حرب الإبادة. لا شيء يصلح للحياة من جديد، كل ما فيها يحتاج إلى سنوات لإعادة الإعمار وترميم ما لحق بالأطفال من خوف وهلع ومشاهد دمار. يقول أبو فؤاد ضاحكاً: «لقد فقدت كل ما جمعته طوال 30 عاماً من حياتي في لحظات»، مضيفاً وهو يحمل بعض حاجات أطفاله: «لم أجد سوى لعبة طفلي في المكان»، مبدياً إعجابه بصمود هذه اللعبة.
عند معبر رفح بين مصر وقطاع غزة، تتقاطع المصائر على وقع هول الحرب. هنا مدنيون يفرون من القطاع، وأطباء أجانب جاؤوا للمساعدة، وسيارات إسعاف تنقل جرحى، فيما أخرى تعيد شهداء.
وتقول فايزة (37 عاماً)، وهي جزائرية، خلال عبورها الممر الأمني للمعبر: «لا أصدق أنني هنا».
تزوجت فلسطينياً قبل عشرة أعوام، ولم تخرج منذ ذلك الوقت من قطاع غزة. صوتها بطيء ولغتها الفرنسية متلعثمة. لا تزال مصدومة بالعدوان الإسرائيلي الذي استمر ثلاثة أسابيع، وتفكر اليوم في استشارة طبيب نفسي مع أولادها.
تروي فايزة قائلة: «طفلتي ابنة الأعوام الأربعة تختبئ تحت الطاولة كلما سمعت هدير طائرة، وطفلي ابن الأعوام الستة بات يبول مجدداً في ثيابه لأنه يخشى الذهاب إلى الحمام. أما أنا فما عدت قادرة على النوم ليلاً». وتضيف: «الحرب في غزة جعلت الناس كالحيوانات».
(معا، الأخبار،
أ ف ب، يو بي آي)