عدوان «الرصاص المصهور» ليس حالة استثنائية في غزّة التي عرفت على مدى تاريخها اعتداءات إسرائيليّة شتّى منذ خمسينيات القرن الماضي، إبان «العدوان الثلاثي»
فراس خطيب
أطفال يدخلون القبور أفواجاً، ورائحة الموت تتصاعد من كل حجر في غزة، ليتسلل الهواء الثقيل إلى واقع شعب أتقن المصائب بأشكالها؛ فعلى تلك الرقعة التي أنهكتها أطنان القذائف، سيحكي الموت ذات يوم عن معاني الحياة. فغزة التي تعيش اليوم قصة عنوانها الهلاك، عرفت في تاريخها كل أنواع الموت.
المجازر التي شاهدها العالم ببثّ حيّ ومباشر على مدار الأسابيع الثلاثة الماضية، هي أحداث ليست غريبة على شعب القطاع؛ فعلى الرغم من أنّ حكايات اليوم تتخذ شكلاً أشدَّ قسوة من الماضي، إلا أنّ النيات في الماضي، هي النيات نفسها اليوم. فمن يعدْ إلى تاريخ المجازر التي ارتكبت بحق الفلسطينيين في غزة، يدرك أنَّ الشعب العالق في القطاع عرف كل أنواع المآسي، لكنَّه في كل مرة استطاع البناء. فتاريخ غزة يؤكد أن البناء ليس شعاراً.
ما أشبه اليوم بالأمس، فمنذ خمسينيات القرن الماضي، وغزة تتعرض لهذه الحروب المعلنة باسم «الأمن الإسرائيلي» للقضاء على أشكال المقاومة فيها.
ففي عام 1955 لم تكن هناك صواريخ «قسّام»، كما هي الحال اليوم، ولم تتذرع السلطات الإسرائيلية بـ«أمن سكان محيط غزة»، لكنَّها أعلنت الحرب على غزة بحجة «تسلل التنظيمات الفلسطينية وقطعها لحدود الهدنة مع إسرائيل». وفي الثامن والعشرين من آذار عام 1955 دخلت قوة إسرائيلية بقيادة الجنرال أرييل شارون إلى القطاع. وإذا استُشهد عشرات رجال الشرطة في اليوم الأول للعدوان الحالي، ففي ذلك العدوان فجّرت القوات الإسرائيلية مقراً للشرطة هناك راح ضحيته أكثر من 50 شرطياً، إضافة إلى مجازر استشهد فيها العشرات. كذلك كانت هناك نيات إسرائيلية مبيتة أيضاً لتدمير بئر المياه الوحيدة في القطاع.
وقد استولى الجيش الإسرائيلي على غزة في الثاني من تشرين الثاني عام 1956. وكانت المعاناة سيدة الموقف: سجون وتعذيب واغتيالات وما إلى ذلك، حتى انسحب الاحتلال عام 1957.
في أيار عام 1956، تعرضت غزة أيضاً لقصف يشبه قصف اليوم، بأدوات كانت متطورة في حينه، ما أدّى إلى استشهاد عشرات الفلسطينيين جراء القصف. وقد روى المؤرخ الغزاوي د. سليم المبيض أيضاً مجزرة جرت في ليلة 7 آذار 1957، أي قبل الانسحاب الإسرائيلي بيوم واحد من قطاع غزة، حين جمع الجيش الإسرائيلي عدداً من الشبان وأخرجهم إلى شرق مدينة غزة، حيث اغتالهم.
وفي ذلك الحين أيضاً، وحّد العدوان على أهلها فصائل المقاومة رغم الهوّة الأيديولوجية بينها. لكنَّ شعب غزة في حينه امتلك أملاً أقوى مما عليه الحال اليوم.
كانت المحاور أقوى، وكانت روسيا تتمتع بنفوذ أكبر. فلم يكتف الاتحاد السوفياتي في حينه بسحب سفير أو المشاركة في قمة، بل هدّد مثلاً بضرب لندن وباريس إذا لم يتوقف العدوان الثلاثي.
لم يبقَ حجر في غزة إلا وقلبته المدفعية. فقد بحث الإسرائيليون، كما في الماضي، عن صورة مفقودة للانتصار. لكنَّ أهالي غزة العالقين تحت الركام انتزعوا من رئيس الحكومة إيهود أولمرت ومن وزير الدفاع إيهود باراك كل صور الانتصار.
وهم اليوم، كما في الماضي، رواية عن شعب. فمعاناة الفلسطيني التي وثقها غسان كنفاني في روايته «رجال في الشمس» يمكن توثيقها اليوم، في غزة أيضاً.