ما إن يعي أهالي غزّة هول المجازر التي أطاحت عائلاتهم وبيوتهم وذكرياتهم، حتى تكتنفهم الصدمة. يذهلون من شدّة المأساة، ولا يعزّيهم سوى تكرار الكلامتستعيد زهوة السموني (42 عاماً) مشهد استشهاد زوجها عطيّة، وابنها برصاص الجنود الإسرائيليين. تحكي القصة من دون أن تصدّقها. ترفض التسليم بالواقع. قد يكون الأمر مجرد قصة مأسوية. تبكي محاولة غسل الصدمة المتمترسة على وجهها.
تروي زهوة المصابة بشظايا في ظهرها، والتي لجأت إلى منزل شقيقها في وسط حي الزيتون، «سمعنا الانفجارات وإطلاق النار يقترب من بيتنا. صرت وزوجي نهدّئ الأولاد. اقترب الجنود من البيت وهم يطلقون النار. فتح عطيّة الباب، وطلبوا منه رفع يديه وخلع ملابسه. جمعونا في غرفة ثم طلبوا منا الخروج، فجّروا غرفة النوم وأطلقوا النار على عطية. استشهد أمامنا. أخذنا نصرخ فاستمروا في إطلاق النار حتى كتمنا البكاء».
وبكلمات متقطعة، تتابع زهوة، «فجأة رأيت الدماء تسيل من صدر طفلي أحمد (أربع سنوات). كان مصاباً برصاصتين. حملته، ثم طلب منا الجنود الخروج من المنزل»، فأخذ الجميع يركضون. وتضيف «كان ينزف. حملته فوراً وهو يصرخ، ثم أخذ صوته يخفت. كنت مصابة بشظايا في ظهري وأنا أركض في الشارع. لم أشعر عندما وقع من بين ذراعيّ، جاء ابني فهد وحمله».
يكمل فهد (19 عاماً)، المصاب بشظايا في أنحاء جسمه، الكلام عن والدته. يقول «اعتقدنا أنهم لن يؤذوا المدنيين، لذلك بقينا في بيوتنا. لكنهم أطلقوا النار، قتلوا ودمروا كل شيء. خرجنا من البيت إلى الشارع، ولم يكن هناك سوى يهود غاضبين يطلقون النار. حملت أخي أحمد لأن أمي تعبت بسبب الإصابة». ويضيف «وصلنا إلى منزل أحد أقاربنا عند شارع صلاح الدين. بقينا الليل هناك، لكن أحمد كان قد استشهد، وأخفينا الخبر عن أمي. قلنا لها إنه في غيبوبة».
وكان فهد، ذو اللحية السوداء، يجلس مع سبعة من أقاربه الناجين حول موقد نار في خيمة عزاء أقيمت بين ركام منازلهم المدمرة، لتلقّي التعازي بثلاثين شخصاً استشهدوا من العائلة نفسها.
لأياد السموني (28 عاماً) أيضاً قصته. استشهد والده طلال ووالدته رحمة وزوجته صفاء، وأصيب أطفاله الثلاثة. يقول «مساء السبت (أول أيام العملية البرية)، قصفوا دارنا بقذيفة حرقت الطبقة الثالثة. نزلنا إلى الطبقة الأرضية. نحو 25 جندياً طرقوا باب البيت بالقوة. فتحت الباب فقالوا لي: ارفع يديك وافتح الجاكيت واخلع ملابسك وأعطنا الهوية. بعدها طلبوا من الجميع مغادرة المنزل رافعين ملابسهم، حتى النساء. خرجنا ومشينا في الشارع بينما كانت دبابات كثيرة والطيران والرصاص والقذائف تسقط علينا من كل الاتجاهات». ويتابع «أصيبت ابنتي بسمة (خمس سنوات)، وابني عبد الله (ثلاث سنوات)، وحملتهم وهم يصرخون. مشينا إلى بيت خالتي رزقة وبقينا نهاراً كاملاً. عندما هدأ إطلاق الرصاص قليلاً، تسلّلت وعبأت المياه من دفيئة زراعية إلى جانب البيت للأطفال، وفي طريق عودتي تعرضت لإطلاق النار. وبعد خمس دقائق، قصفوا بيت خالتي واستشهدت خالتي وأولاد عمي وابنها وأمي رحمة وزوجتي صفاء وآخرون. كان الأمر أشبه بفيلم مرعب».
ويضيف أياد أن «الجنود لم يكتفوا بالقتل. لقد سرقوا ذهب زوجتي وقيمته 3 آلاف دينار، وخمسة آلاف دولار كانت في الخزانة. أخذوها وهم يفتشون».
منذ شهر تقريباً، كانت المباني والمعامل لا تزال منتصبة في شرق جباليا إلى جانب بساتين الزيتون. لكن هذه المنطقة الواقعة شمال قطاع غزة، بدت كأن زلزالاً ضربها منذ انسحاب الدبابات الإسرائيلية.
المشهد كارثي ويلخّصه أشرف فراج، وهو مهندس، قائلاً «هذا أسوأ من عشرة زلازل»، فيما يجهد محمد حسن، وهو تاجر جملة، لكبح دموعه. فقد كل ما يملك، منزله والمستودعات التي يخزن فيها بضائعه، والفندق الذي شيّده لإيواء زبائنه. ويتساءل «لماذا دمروا كل شيء؟».
ويعدّ حسن من الوجوه المعروفة في المنطقة، ويلقب بأبي رامي، ويعرف بقدرته على حل النزاعات. علاقته مع «حماس» والسلطة الفلسطينية جيدة، وباستطاعته الدخول إلى إسرائيل من أجل زبائنه الإسرائيليين. ظل أبو رامي مختبئاً في مستودعاته في الأيام الثلاثة الأولى للاجتياح البري كأنه يحاول حمايتها. إلا أنه هرب في اليوم الرابع من دون أن يستطع إنقاذ شيء.
يستذكر بعض الغزاويين مشاهد ما قبل الدمار بالقول «هنا كانت بساتين الليمون والزيتون والمنازل الواسعة ذات الأفنية. وهناك كانت الساحات التي يربى فيها الدجاج. والآن، لا يوجد سوى مبان مدمرة نصف مدفونة في بحر من أرض مجرفة، في مشهد دمار غريب».
في أحد الأحياء في مدينة غزة، لجأ محمد عابد إلى استخدام عبوة فارغة لقذيفة يغطيها السواد، كثلاجة لحفظ الطعام. أما فاطمة فتقول «سأقيم خيمة صغيرة وأعيش هنا مجدداً. لكن من سيساعدني في إعادة بناء منزلنا؟».
(أ ف ب، رويترز)