يبدأ روّاد الرأسماليّة في منتجع دافوس الفاخر في جبال الألب اليوم منتداهم السنوي الذي كان في السابق يمجّد خيرات النظام العالمي، غير أنّه الآن يقف عند أسئلة جوهريّة كثيرة تبدأ بمرحلة الركود التي يمرّ بها الاقتصاد الكوني، لتصل إلى كيفيّة تعديل «نظام» العولمة الذي أدّى يوم أمس فقط إلى إلغاء 70 ألف وظيفة حول العالم
حسن شقراني
يفتتح رئيس الوزراء الروسي، فلاديمير بوتين، منتدى نخبة السياسيّن ورجال الأعمال في العالم، الذي تستضيفه مدينة دافوس السويسريّة لأربعة أيّام، في وقت قد يكون الأقسى على الرأسماليّة منذ الكساد العظيم في القرن الماضي. فقد رفعت الأزمة الماليّة التي تحوّلت اقتصاديّة وتيرة النقاش حول طبيعة الاقتصاد الكوني وعولمته الماليّة المعقّدة، وخصوصاً أنّ العام الجاري يرجّح أن يشهد الانعكاسات الحقيقيّة لأزمة بدأت في أسواق المال وتمتدّ لتمسّ الوظائف ليقارب عدد العاطلين من العمل الـ300 مليون نسمة في نهاية العام الجاري.
الرؤساء والوزراء ورجال الأعمال الـ2500 الذين ستحتضنهم منطقة من جبال الألب كانت سابقاً مشهورة بمصحاتها لمعالجة المصابين بمرض السل، سيحاولون وضع طروحاتهم في ما يتعلّق بإصلاح الاقتصاد العالمي، لا تغييره طبعاً، وذلك قبل قمّة مجموعة العشرين (G20) التي تستضيفها لندن في نيسان المقبل.
النسخة الـ39 من المنتدى الاقتصادي العالمي تشوبها التحدّيات. وقد يبدو فيها ملحّاً إعادة الاعتبار إلى مقولة الرئيس السابق للأمم المتّحدة، كوفي عنان، في منتدى عام 1999، «فلنمنح السوق العالميّة وجهاً إنسانياً». فبعد 10 سنوات من هذه الدعوة تبدو الأمور أكثر إلحاحاً لفرض التقنين على آليّات الرأسماليّة التي أدّى انفلاتها غير المعقول في أسواق المال إلى انهيارات عالميّة بدأت في الخريف الماضي.
وعلى الرغم من أنّ الكلام على شاكلة مقولة عنان كان دائماً مرحّباً فيه في المنتدى، حيث يتحدّث الجميع عن ضرورة تحفيز الأعمال الإنسانيّة (تبرّع رئيس شركة «Microsoft» بيل غيتس عام 2001 بـ100 مليون دولار لتطوير علاج للسيدا في أفريقيا) غير أنّ دافوس لم تشهد قطّ في نهاية النقاشات المخمليّة السنويّة التي تستضيفها أيّة خلاصات فعليّة تمسّ جوهر النظام القائم.
ويبدو الوقت الآن أفضل من أيّ وقت مضى من أجل إحراج «هؤلاء الأثرياء والأغنياء» المجتمعين تحت عنوان «بلورة عالم ما بعد الأزمة»، وهو العنوان الذي قد يكون ارتآه رئيس المنتدى ومؤسّسه، كلاوس شواب. ولكن الأزمة لم تنته لكي تطلق عمليّة صياغة ما خلّفته. وقد يكون إنتاج «البديل النسبي» عمليّة أسهل في هذه المرحلة، وخصوصاً أنّ الرئيس الأميركي الجديد، باراك أوباما، يؤكّد أنّ إعادة توزيع النفوذ عالمياً، من باب منح البلدان النامية حقوقها المشروعة، ضروريّة لإحلال التوازن. وهي عمليّة بدأت شكلياً في عهد سلفه، جورج بوش، في قمّة «G20» في واشنطن وتُستكمل في قمّة لندن في الربيع المقبل.
وكذلك قد يكون حديث أوباما، الذي لن يحضر المنتدى لانشغاله في المشاكل الاقتصاديّة الأميركيّة الخاصّة، شكلياً أي من باب الدبلوماسيّة التي يعد بها، غير أنّه يمثّل تيّاراً جديداً (يوافقه عليه بالمناسبة معظم الروّاد السياسيّن للعولمة) في متاهة البحث عن بدائل، التي تكتسب في كلّ عام زخماً جديداً طابعه يساري في «المنتدى الاجتماعي البديل».
وإن كان هذا العام خالياً من الهدف المحبّب، بوش الابن، مثلما كان عليه الوضع خلال السنوات الماضية، فإنّ الأزمة الماليّة وانعكاساتها على الفقراء والطبقة الوسطى تمثّلان مادّة دسمة للمنتدى البديل، وخصوصاً أنّ الأزمة الماليّة حتّى الآن أعادت أكثر من 100 مليون نسمة حول العالم إلى الفقر وفقاً لتقديرات البنك الدولي.
وسترتدي مدينة بيليم البرازيليّة الأمازونيّة حلّتها اليساريّة البديلة مع وصول أكثر من 100 ألف ناشط مناهض للعولمة إليها، وفقاً لما نقلته وكالة «فرانس برس»، التي تفيد أنّه سينظّم حوالى 2400 ورشة عمل ومحاضرة ومؤتمر واجتماع وغيرها من الفعاليات للدفاع عن مختلف القضايا التي تزخر بها مبادرات مناهضة العولمة، والتي اتخذت عنوان «عالم مختلف ممكن» شعاراً لها في منتدى بورتو أليغري البرازيلي عام 2001.
وفي المقابل ستسيطر في جبال الألب «الرزانة والاتهامات الذاتيّة»، على حدّ تعبير صحيفة «Financial Times». فالمنتدى الاقتصادي العالمي الذي نشأ عام 1971، ستقلّ فيه هذا العام حفلات الكوكتيل الصاخبة والبرّاقة، التي جعلته، إضافةً إلى الأرباح الهائلة التي تحقّقها الشركات العابرة القارّات، و«ممارسات الطبقة السياسيّة الرأسماليّة»، هدفاً دسماً لمناهضي العولمة.
قد يرتبك بعض الحاضرين في منتدى دافوس لدى الإجابة عن أسئلة من قبيل «لماذا لم تتوقّعوا الأزمة الماليّة ما دمتم نخبة؟»، ولكن ما حدث قد حدث وما يحدث في دافوس لا يبقى في دافوس.


إنجازات!

شهد المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس العام الماضي إعلان رئيس الوزراء الياباني السابق، ياسوو فوكودا، إنشاء صندوق بقيمة 10 مليارات دولار مخصّص لتعزيز الجهود في مكافحة الاحتباس الحراري في البلدان الفقيرة. كما أطلقت الشركات الأساسيّة فيه بالشراكة مع الأمم المتّحدة مبادرات لتسهيل عمليّات دعم القطاع الخاص لجهود الإغاثات الإنسانيّة. ولكن ما غفل عنه هذا التجمّع في السابق أنتج أزمة يبدو حتّى الآن أنّها تتغلّب على إجراءات الحكومات، ومن الأجدى له هذا العام، بالحدّ الأدنى، الحديث عن الأخطاء وكيفيّة مواجهتها، لا التبجّح بالإنجازات.