خلال الشهر الماضي خسر الاقتصاد الروسي 500 ألف وظيفة ليرتفع معدّل البطالة إلى 7.7 في المئة. فتداعيات الأزمة الاقتصاديّة تزداد حدّتها على البلد النفطي وتترجم هروباً للرساميل وتوقّعات بتقلّص الاقتصاد بنسبة 0.2 في المئة خلال العام الجاري. ما يعيد إلى ذاكرة الروس أزمة عام 1998
حسن شقراني
قبل أسبوع توقّعت الحكومة الروسيّة تقلّص اقتصاد البلاد بنسبة 0.2 في المئة خلال العام الجاري على اعتبار أنّ معدّل سعر برميل النفط يبلغ 41 دولاراً. وهو واقع صعب للبلد الشيوعي السابق الذي انطلق، مع وصول فلاديمير بوتين إلى الكرملين في بداية الألفيّة الثالثة، في مسيرة «إصلاح وتحديث» معتمداً على عائدات المواد الأوليّة وتحديداً الوقود الأحفوري، ولم يستطع منذ الصيف الماضي سوى مشاهدة سعر البرميل ينخفض بأكثر من 75 في المئة من قيمته.
وفي الوقت الذي تزداد فيه حدّة موجة إلغاء الوظائف ترتفع أصوات المسؤولين الروس المحذّرة من اضطرابات اجتماعيّة تنتج من غضب الطبقة الوسطى والفقراء ممّا آلت إليه الأمور بسبب الأزمة الماليّة العالميّة، بعدما كانت السنوات الماضية مفعمة بـ«بحبوحة» ملموسة أنست الجميع السنوات السوداء، سياسياً واقتصادياً، ودفعت المواطنين للالتفاف حول فلاديمير بوتين الذي أورث العرش مرحلياً إلى ديميتري ميدفيديف، في ظلّ نسبة تأييد شعبي تقارب الـ80 في المئة.
ولكن مع تأخّر السلطة في الاعتراف بإمكان التأثّر جدياً بالأزمة العالميّة، ومع ضعف التدابير المتّخذة بسبب انخفاض أسعار النفط، يبدو أنّ النعيم الذي كان يعيش فيه البلد الأوروبي الشرقي سينتفي تدريجياً، وخصوصاً أنّ إيرادات الحكومة التي تعدّ أداةً أساسيّة في تحقيق الاستقرار الاجتماعي ستتراجع بنسبة 40 في المئة خلال العام الجاري، مقارنةً بالتوقّعات السابقة، وفقاً لما نقلته التقارير الإعلاميّة عن وزير المال ألكسي كودرين أمس.
ويرجّح كودرين أن تتراجع العائدات إلى 181 مليار دولار، بعدما كان مشروع الموازنة السابق يفترض أنّ سعر برميل النفط سيكون معدّله 95 مليار دولار، ما دفع الوزير الروسي إلى اعتبار أنّ بلاده «جزيرة استقرار»، خلال كلمة ألقاها في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس العام الماضي.
ولكن بعد عام يبدو أنّ الاستقرار بعيد عن موسكو. وستلجأ الحكومة إلى احتياطاتها النقديّة، التي ارتفع مستوى استراتيجيّتها في هذه المرحلة، وستستخدم 56 مليار دولار من أجل تغطية الفارق في الموازنة. وهذا الصندوق، إلى جانب صندوق آخر، أنشأته السلطة من أجل تكديس البترودولارات، يضمّان حالياً حوالى 208 مليارات دولار وفقاً لكودرين.
العجز المرتقب الآن في الموازنة تبلغ نسبته 6.1 في المئة، ما يعدّ وفقاً لكودرين، «عجزاً مرتفعاً، حتّى بحسب معايير الأزمات». أزمات اعتقد الروس أنّها ولّت مع انتعاش الطبقة الوسطى وانتقال المجتمع إلى مستوى أرفع من الاستهلاك والادخار والاستثمار.
فالمرحلة الحاليّة تذكّر الروس بالأزمة الماليّة (أزمة الروبل) التي ضربت في عام 1998. حينها كانت البلاد لا تزال في قبضة رأسماليّة همجيّة، تسيطر عليها مجموعة من الأوليغارشيّين، والسياسات الاقتصاديّة العشوائيّة إضافةً إلى الأزمة الماليّة التي ضربت اقتصادات جنوب شرق آسيا والانخفاض الحاد في الطلب على النفط وعلى المواد الأوليّة عموماً، عوامل دفعت إلى تكدّس حوالى 12.5 مليار دولار من الأجور غير المدفوعة من جانب الحكومة.
وفي هذه الأزمة، ترتفع أيضاً الضغوط على الروبل. فالعملة الروسيّة فقدت أكثر من 30 في المئة من قيمتها منذ آب الماضي. وقد انخفض سعر صرفها إلى مستوى قياسي جديد أمام سلّة اليورو والدولار المقوّمة على أساسها. ومن المعروف أنّ العملة فقدت حوالى 67 في المئة من قيمتها خلال أزمة 1998.
الحكومة الآن لا تزال مسيطرة على الاقتصاد بحكم سيطرتها على مصادر الطاقة. والانخفاض في العائدات الذي يتحدّث عنه كودرين يؤدّي بطبيعة الحال إلى تقلّص قدرة الحكومة على فرض نموذج «الديكتاتوريّة التوافقيّة» الذي يفترض نظام سوق موجّهة، وخصوصاّ أنّ تدفّق الرساميل الحيويّة الذي كانت البلاد تعتمد عليه بهامش واسع في السابق، سينحسر كثيراً خلال العام الجاري حيث سيهجر البلاد حوالى 110 مليارات دولار، وهو رقم قياسي مسجّل وفقاً للتقديرات الرسميّة.
فمنذ منتصف العام الماضي، تتراجع ثقة المستثمرين في المناخ الاستثماري في روسيا. وبعد الحرب مع جورجيا، يزداد القلق من توجّه أكثر جذريّة لدى السلطات من أجل السيطرة على قطاعات حيويّة من الاقتصاد. وأكثر من ذلك، فإنّ الاعترافات الرسميّة، التي جاءت متأخّرة، في شأن التأثّر بالأزمة العالميّة، تزيد المخاوف. فبحسب نائب رئيس الوزراء، إيغور شوفالوف، «قد تستمرّ الأزمة 3 سنوات، وعام 2009 سيكون الأسوأ بينها». فليأمل الروس انتعاش أسعار النفط في بداية العام المقبل، لاستكمال مرحلة النعيم المؤقّت أو الاستقرار النسبي.


إنعاش الاقتصاد

في مواجهة الأزمة الماليّة الحاليّة، تعهّد رئيس الوزراء الروسي، فلاديمير بوتين، أنّ الأزمة الماليّ التي شهدتها البلاد عام 1998 لن تتكرّر. وأعلنت حكومته في هذا السياق رزم إنقاذ مالي واقتصادي. وقد كشفت عن حزمة تحفيز اقتصادي بقيمة 200 مليار دولار تهدف إلى زيادة الطلب وإنعاش العجلة الاقتصاديّة، كما من المتوقّع الكشف عن حزمة إنعاش مالي تتضمّن 27.36 مليار دولار لزيادة رساميل المصارف التجاريّة، في ظلّ تأثّر القطاع المالي في البلاد بسبب التدهور في البورصات العالميّة.