لعلّ النتائج الأكثر إيلاماً على الصعيد الاجتماعي والإنساني التي قد تنتج من الأزمة الاقتصاديّة الحاليّة، هي عودة شبح العبوديّة. ففي اليوم العالمي المخصّص لهذه الآفة التاريخيّة، تحذّر أوروبا من أنّها إلى تزايد في أسواقها، في الوقت الذي تقول فيه الأمم المتّحدة إنّ عدد العمّال المستخدمين عبيداً يبلغ 27 مليون شخص: البطالة تصبح هنا واقعاً رحيماً
حسن شقراني
تتصاعد يومياً المؤشّرات التي تفيد بأنّ العام المقبل سيشهد التمظهرات القاسية للأزمة الماليّة في المكامن الحقيقيّة من اقتصادات العالم. فمعدّلات البطالة في كل أرجاء المعمورة إلى تصاعد، بحسب منظّمة العمل الدوليّة، بسبب تقلّص هوامش الربحيّة للشركات التي صعقها الركود في سوق الائتمان. وإذا كان توسّع الاقتصاد الكوني في إطار الرأسماليّة المعولمة محكوماً بالكبح بعد معدّلات نموّ تراوحت بين 3.5 في المئة و4 في المئة بين عامي 2004 و2007، فإنّ لذلك تداعيات، ليس على صعيد التوظيف فقط، بل في سوق مخيفة تسمّى سوداء تنعدم فيها الاعتبارات الإنسانيّة لمصلحة تحقيق الأرباح من خلال استغلال البشر.
العبوديّة، التي يعتقد أنّها أزيلت من الوجود «رسمياً» بحلول عام 1926، تعود إلى الواجهة بقوّة وتظهر في عيدها (2 كانون الأوّل) من خلال أرقام كبيرة تذكّر بها المنظمات الدوليّة.
فبحسب الأمم المتّحدة، فإنّ الاستغلال في العمل، أو العبوديّة، هو واقع معيش بالنسبة إلى أكثر من 27 مليون نسمة حول العالم، والجهود الحاليّة المبذولة لمواجهتها تبقى غير كافية. وفي هذا الصدد، يقول المندوب الأممي الخاص في شأن العبوديّة، غولنارا شاهينان: «خلال العام الماضي، احتفل العالم بمرور 200 عام على انتهاء ظاهرة المتاجرة بالبشر، ولكن على الرغم من ذلك، فإنّ العبوديّة ليست جزءاً من التاريخ» لأنّ آثارها تظهر وتتزايد مع ازدياد حدّة سلبيّة المؤشّرات الاقتصاديّة الكونيّة، وفي هذه المرحلة، تلك التي تدفع إليها الأزمة الماليّة العالميّة.
وكالة «Associated Press» تنقل عن رئيس وكالة الاتحاد الأوروبي المخصّصة لشؤون الحقوق الأساسيّة، مورتن كجاروم، قوله إنّ المخاوف تتزايد من أن تدفع الأزمة الاقصاديّة القائمة المزيد من البشر إلى سوق العمل السوداء وتعريضهم للاستغلال. ويشير إلى أنّ مئات، بل آلاف الأطفال يأتون إلى أوروبا كلّ عام ويختفون خلال أيّام أو أسابيع.
وفي شأن النقطة الأخيرة، تلحظ التقارير الإنسانيّة الدوليّة أنّه إذا احتسبت عمالة الأطفال، فإنّ عدد الأشخاص الذين يعيشون في عبوديّة يصبح 67 مليون نسمة، عوضاًَ عن 27 مليون نسمة. وليس هناك أدنى شكّ في كميّة الأرباح التي يمكن أن تُحَقَّق من هذه الأعمال. فكلّ عام تتمّ المتاجرة بأشخاص يتراوح عددهم بين 600 ألف نسمة و800 ألف نسمة، حوالى 80 في المئة بينهم هم من النساء. والخبراء يقدّرون أن يبلغ مردود التجارة بالبشر في الولايات المتّحدة وحدها 9 مليارات دولار سنوياً. وحول العالم تبلغ عائدات الإتجار بالنساء لدواعٍ جنسيّة 6 مليارات دولار في العام الواحد. ويبدو أنّ هذه الأعمال مربحة لدرجة أنّ السلطات تتذمّر من أنّه سرعان ما تغلق منفذاً لممارسيها، سرعان ما يظهر منفذ آخر.
وفي مثال بارز على حجم العبوديّة، تجدر الإشارة إلى البرازيل، حيث تتزايد ظاهرة العمل الجبري، وخصوصاً في صناعة الإيثانول التي تنمو بشكل صارخ خلال السنوات الماضية. وفي هذا الصدد، يقول المركز الكاثوليكي البرازيلي إنّ 7 آلاف عامل حُرِّروا من «قيود سهول قصب السكّر» بين عامي 2003 و 2008.
وفي قبرص، تلفت المنظّمات الدوليّة غير الحكوميّة إلى تزايد ظاهرة الاستغلال من خلال استيراد العمّال، وخصوصاً النساء وإجبارهم على العمل. وخلال العام الجاري وحده تتحدّث الشركة عن أكثر من 54 ضحيّة استغلال جنسي، 11 حالة بينها استخدمت القوّة لتطويعها.
وإذا كانت البرازيل وقبرص بلدين قد تكون فيهما الرقابة على الممارسات المخالفة للحقوق الأساسيّة إلى حدّ ما منخفضة، فأوروبا التي كانت معهد الحقوق الإنسانيّة خلال عصر الأنوار، تتذمّر أيضاً من ارتفاع ظاهرة العبودية، لكن من انعكاس الأزمة الماليّة على سوق العمل. فالعديد من سكّان المحاور الفقيرة في بلدان الاتحاد الأوروبي قد يجدون أنفسهم في مرحلة الخطر من ناحية توفير المدخول. وقد يلجأ الفقير في هذه الحالة إلى مسهّل السفر ومدبّر الأعمال في الخارج. ويتّضح في ما بعد أنّ الوجهة ليست ورديّة، بل مكان يجري فيه الاستغلال، وهو أكثر خطورة على المجتمعات من التداعيات التقليديّة للأزمات الاقتصاديّة العالميّة مثل ارتفاع معدّلات البطالة.
«نحتاج إلى الاعتراف بوجود الأشكال التقليديّة للعبوديّة (في مجتمعاتنا) وتحسين مستوى فهمنا لها بأشكال حديثة إضافة إلى صياغة استراتيجيّات مبتكرة»، على حدّ تعبير مورتن كجاروم، ولكن أوروبا حتّى الآن لا تزال منقسمة في شأن خطّة تحفيز اقتصادي، فما بالها بالاعتبارات الإنسانيّة، التي تُمحى شيئاً فشيئاً مع ازدياد مؤشّرات انخفاض ربحيّة شركات العولمة.


المؤسّسة الإجراميّة

تمّ التخلّي عن العبوديّة في بريطانيا في عام 1838 وفي الولايات المتّحدة عام 1926، وفي المؤتمر العالمي للعبوديّة عام 1926، انتهت رسمياً على صعيد كوني. ولكنّ هذه الظاهرة تبقى موجودة في خبايا المجتمعات وفي قلب الأسواق السوداء. فبحسب تقرير اللاجئين المنشور في عام 2000، المعنون بـ«ظاهرة حديثة للعبوديّة»، تقول وزيرة الخارجيّة الأميركيّة السابقة، مادلين أولبرايت، إنّ المتاجرة بالبشر هي المؤسّسة الإجراميّة الأكثر نمواً في العالم. وأبرز مظاهر العبوديّة هو العبوديّة الجنسيّة والعمل الجبري.