انخفضت أسعار النفط بحدّة أخيراً، واقتربت من عتبة الـ40 دولاراً للبرميل أمس، وهو أدنى مستوى منذ 4 أعوام، ويترافق تسجيله مع خفض وكالة الطاقة الدوليّة لتوقّعاتها على النفط في عام 2009. هذا الواقع يعيد إلى أذهان البلدان العربيّة المنتجة للنفط المراحل السوداء التي عصفت بسعر الذهب الأسود، ويلوّح بسيناريو استقرار الأسعار عند مستويات منسيّة!
نيويورك ــ نزار عبود
إلى أي مدى يمكن لسعر برميل النفط أن يهوي؟ سؤال يشغل بال شعوب البلدان المنتجة والمستهلكة وحكوماتها. وربما لا يكون هناك ردّ شاف عليه، لكن السوق تسجل مستويات جديدة كل يوم. فالنفط، الذي يعد المادة الاستراتيجية الأهم في العالم، خالف على مدى نحو قرن ونصف القرن كل التوقعات. وفي السنين الخمسين الأخيرة اتسمت دوراته بالقفزات المتشنجة: من دولارين للبرميل في ستينيّات القرن الماضي، إلى 147 دولاراً في تموز 2008. وحالياً يغازل حاجز الـ40 دولاراً بعدما جرف كل السدود وهو يتدحرج من القمة.
الأمر يشبه كثيراً ما جرى بين عامي 1979 و1985، لكن ليس تماماً. في تلك الفترة هوى السعر من 40 دولاراً إلى 10 دولارات. ثم بقي تحت مستوى 20 دولاراً حتى عام 1990 عندما غزا الرئيس العراقي الراحل صدام حسين الكويت. وعندها انتعش ولكن بقي دون 28 دولاراً متأثراً بالتباطؤ الاقتصادي العالمي من جهة، وحاجة الدول المتحاربة في الشرق الأوسط لكميات كبيرة من وقود الحرب مالياً ونفطياً.
«أوبك»، بقيادة السعودية، تظاهرت بأنّها كانت قادرة على ضبط إيقاع نظام العرض والطلب. لكنّها في الحقيقة كانت تستخدم سلاح فائض الطاقة الإنتاجية في سوق النفط لخفض الأسعار في لعبة استنزاف للخصم المحارب، إيران. آنذاك تردت الأوضاع الاقتصادية في الخليج إلى حدود مذهلة جعلت العوز يعضّ الدول الخليجية النفطية القليلة السكان.
وباستثناء سوق السلاح، تعرضت حركة الاقتصاد للشلل التام تقريباً قبل أن تنتهي حرب الخليج الأولى عام 1988. وعندما وجّه صدام سلاحه إلى الكويت أكل الغلاء المفاجئ بقيّة مدخرات الدول وشعوب المنطقة. لكنّه أنعش أوضاع شركات النفط العالمية العملاقة التي ترنّحت أسعار أسهمها طويلاً، لا سيما بعد انهيار البورصات في تشرين الأول عام 1987.
أسعار النفط بقيت عند مستوى 25 دولاراً حتى الغزو الغربي للعراق في عام 2003. وكان العالم يتوقع أن تهوي بعد الانتصار السريع وانهيار نظام صدام. إلا أن عوامل عديدة أدت إلى نتيجة عكسية. فالعراق لم يتمكن من العودة إلى مستوى إنتاجه قبل الغزو. ووتيرة نمو الاقتصاد الصيني تسارعت متجاوزة حاجز الـ11 في المئة سنوياً. كما أن فقاعة النمو في سوق العقارات الغربية والشرقية أوجدت ثروات جديدة في أيدي الأفراد.
وشهدت الدول المستقرّة المنتجة للمواد الأولية تيّارات تنمويّة ساخنة على شتى الأصعدة. غير أنّ الكثير من الثروات المتراكمة من المضاربات في كلّ الأسواق المعقولة والخيالية، ومن قفزات أسعار المواد الأولية، ارتطمت بجدار الواقع المادي، وحدثت عملية التصحيح المستمرّة الحالية في الأسواق.
وخلال الأعوام الأخيرة واصلت دول «أوبك» تأمين طاقة إنتاجيّة احتياطيّة. فإنتاج السعودية يستعد للارتفاع قريباً بواقع مليوني برميل يومياً متجاوزاً 12 مليون برميل في اليوم. والبرازيل عثرت على أكثر من 100 مليار برميل من النفط لتصبح من كبرى الدول النفطية في العالم.
وإذا بقي الطلب العالمي رهينة الأزمة الاقتصادية الحالية على ترديه، فإنّ السعودية لن تستطيع فرض سعر 75 دولاراً للبرميل كما قال وزير نفطها علي النعيمي. وستبدو «أوبك»، ما لم تنضمّ إليها روسيا سريعاً والبرازيل في وقت لاحق، كالمشعوذ الأفريقي الذي يدّعي القدرة على إنزال المطر. أي ذات تأثير معنوي على السوق أكثر منه مادياً، لأن سجلها حافل بخرق نظام الحصص.
وإذا كان التاريخ معياراً، وهو ليس المعيار الدقيق بأي حال من الأحوال، ففي خضمّ الأزمة الحالية، التي يعد الانكماش العالمي أبرز مظاهرها، قد يعود سعر النفط للاستقرار عند30 دولاراً للبرميل. وهذا يجعل القيمة الفعلية للوقود الأحفوري تعود إلى ما كانت عليه في أوائل السبعينيات. وإذا حدث هذا فقد يشهد الشرق الأوسط أوضاعاً اقتصادية واجتماعية شبيهة بما جرى في منتصف الثمانينيّات أو ربما أسوأ بالنظر إلى الزيادة الكبيرة في عدد السكان، ونمو الحاجات الاستهلاكية، ناهيك عن المديونية الشخصية المرتفعة برغم الطفرة الاقتصادية الأخيرة، ما يعدّ «سيناريو أسود» أسوأ من السيناريوهات السابقة.
الخليجيون قلقون للغاية على أوضاع المصارف الوطنية من حجم الأقساط المتراكمة على العمال الوافدين كما المواطنين. ولم يعد هناك هذه الأيّام رساميل متاحة للمضاربات المغامرة، فالكل لذع إصبعه في المضاربات الهوجاء. هل يكون المطلوب عدم الاكتفاء بربط الأحزمة بل بوضع سترة النجاة لهبوط اضطراري؟ ربما يكون ذلك من الحكمة.


آثار مضاعفة

خلال حرب الخليج الأولى، عانت البلدان النفطيّة في الخليج العربي من أزمة اقتصاديّة حقيقيّة. ففي الكويت تبخرت السيولة في بورصة «سوق المناخ» التي التهمت زهاء 80 مليار دولار. وهو مبلغ يعادل نحو 500 مليار دولار بالأسعار الحالية. وهناك دول خليجية أخرى عانت من شحّ السيولة إلى حد عدم دفع رواتب القطاع العام. فكثير من العاملين في أبو ظبي مثلاً لا يزال يذكر كم عانى من عدم الحصول على راتب لمدة 6 أشهر. لكن في تلك الأزمة لم يكن المستهلك يعرف بطاقات الائتمان، العملة البلاستيكية السحرية، التي قد تضاعف آثار الأزمة حالياً.