يتوقّع صندوق النقد الدولي انخفاض حجم التجارة الدوليّة بنسبة 2.1 في المئة خلال العام المقبل، في انعكاس مباشر للأزمة الماليّة على الاقتصاد العالمي. وبحسب «مؤشّر البلطيق للنقل الجاف» فإنّ حركة التجارة بين الدول انخفضت بنسبة 94 في المئة بين أيّار الماضي والشهر الجاري، ما يؤكّد تلك التوقّعات السوداويّة
نيويورك ــ نزار عبود
نتيجة للأزمة المالية العالمية، انخفضت التجارة بين الدول منذ 21 من أيار الماضي حتّى الخامس من كانون الأوّل الجاري، بنسبة 94 في المئة بحسب «مؤشر البلطيق للشحن الجاف» (BDA)، الذي هوى من مستوى 11793 نقطة إلى 663 نقطة (عاد وتحسّن بعض الشيء ليصل إلى 679 نقطة مساء الثلاثاء الماضي). وهو أدنى مستوى يصله المؤشر الذي يُعمل به منذ 1998 بينما تعمل سوق الشحن من حي لندن المالي منذ عام 1744. ويعدّ أصدق مؤشر للطلب على النقل البحري وحركة الاقتصاد العالمي الفعلية ولا يعتمد على المشاعر أو تكهنات «المنجمين».
المؤشر يتابع أجور الشحن الدولي بناءً على ميزان العرض في طاقة السفن وعددها والطلب الفعلي على طاقة شحنها في الخطوط الرئيسية حول العالم. وعند مستوى 663 المتدنّي للغاية، يصبح من الصعب على شركات النقل البحري تغطية نفقاتها الأساسيّة حتى بعد هبوط كلفة الطاقة. أضف إلى ذلك أن أجور التأمين في بعض الخطوط التي تمرّ من مضيق باب المندب باتت عبئاً إضافياً كبيراً على كلفة النقل بسبب زيادة القرصنة البحرية المنطلقة من برّ الصومال.
ولتجاوز بعض مشاكل نفقات النقل، ولكي لا تتعرض شركات الملاحة هي أيضاً للإفلاس، تلجأ بواخر شحن المواد السائلة أو الجافة، إلى خفض سرعاتها بهدف الحدّ من استهلاك الطاقة، ما يعني إطالة آماد رحلاتها. وطول الرحلة يدخل في ميزان الحساب التجاري.
على أن المشكلة الحقيقية في انحسار التجارة الدولية لا تعود إلى أسعار الطاقة، بقدر ما تعود إلى عزوف المصارف عن إصدار رسائل اعتماد نظراً لشحّ الموارد الماليّة، فضلاً عن تقلص الطلب في الدول المستهلكة. ولا يمكن شحن البضائع على متن السفن بأي طريقة من دون تأمين تلك الرسائل مع بوالص الشحن. وهي مشاكل لا قدرة للحكومات والمصارف المركزية على حلها أو التدخل في آلياتها بهدف إظهار صورة غير واقعية لما يجري في حركة التجارة بين الدول.
تُقدِّم سوق البلطيق من لندن «مؤشر البلطيق» للشحن الجاف كل يوم على غرار مؤشرات بورصات الأسهم والأوراق المالية. وفيها يجري سؤال كبار وكلاء الشحن البحري في مختلف أنحاء العالم عن أكلاف نقل شحنات محددة من ميناء لآخر. ويعبّر المؤشر عن الكلفة على 26 خطاً بحرياً رئيسياً بناءً على الفترات الزمنية ورحلات أحجام معيّنة من البواخر الناقلة لمواد أولية مثل الفحم والحديد والحبوب والزيوت ومواد البناء والنفط الخام والمعادن بأشكالها الأوليّة.
ولكونه يحدّد مستوى الطلب العالمي على المواد الأولية الضرورية في جميع مراحل الإنتاج والاستهلاك، فإنّه يُعدّ أصدق مؤشر على حركة الاقتصاد العالمي. ومن شأن مراقبة ذلك المؤشر تكوين المعرفة المسبقة لوضع الاقتصاد العالمي قبل شهور من صدور بيانات الإنتاج والاستهلاك. لذا يراقبه مديرو محافظ الاستثمار بدقة يوماً بيوم.
ويُعدّ هذا المؤشر أيضاً أهم من المؤشرات الأخرى مثل مؤشرات سوق العمل والأجور وثقة المستهلك التي تقوم في غالبيتها على التقديرات المعرضة للتقلبات المفاجئة. وهنا لا يجري الحديث عن مشاعر الأشخاص أو تقديرات عامة للناتج المحلي الإجمالي، بل عن شحنات فعلية، وسفن مبحرة تنتقل من موانئ محددة إلى موانئ أخرى بأمّ عينها. لذا فإن المؤشر لا يقبل «التوقّعات» أو الاجتهادات.
إضافةً إلى كل هذه العوامل التي تجعل من تدني المؤشر نذير شؤم على مستقبل الاقتصاد العالمي في السنة الجديدة، يجري في سوق البلطيق تحديد عدد سفن أساطيل الشحن المتاحة وطاقاتها الفعلية دون التباس في عدد البواخر وطاقاتها. فالبواخر ذات أكلاف البناء الضخمة، تبقى في الخدمة لفترات طويلة، على العكس من الطائرات والشاحنات مثلاً التي يمكن إخراجها من الحسابات تبعاً لحركة السوق.
كما أن بناء سفن جديدة لا يجري بين عشية وضحاها. بل تعلم السوق بانضمام أيّة باخرة شحن إلى ميزان العرض قبل عامين من تدشينها، أي عند إبرام صفقة بنائها في أحد الأحواض. وعليه تستطيع السوق تقديم قراءة دقيقة لحجم الأساطيل العاملة. وأي تبدل ولو طفيفاً في ميزان العرض والطلب يؤثّر مباشرة في مستوى مؤشر السوق.
من هنا يثير هبوط «مؤشر البلطيق للشحن الجاف» قلقاً كبيراً لدى خبراء الاقتصاد ورجال السياسة. فالأمور تردّت معه إلى مستوى يستدعي معالجات سريعة تبدأ أولاً من السيولة المالية في المصارف وتعزيز نظام حرية التجارة بدلاً من فرض قيود تجاريّة في هذه المنطقة أو تلك.


فائض صيني

لا يمكن الحديث عن التجارة الدوليّة من دون ذكر الصين، التي تحوّلت خلال السنوات الماضية إلى محجّ تجاري وغزت سلعها أسواق العالم كلّها. وفي تشرين الثاني الماضي، ارتفع الفائض التجاري الصيني إلى 40.1 مليار دولار في تشرين الثاني الماضي، مسجّلاً مستوىً قياسياً بفارق كبير عن الرقم القياسي السابق 35.2 مليار دولار، الذي سجّل في تشرين الأول. غير أنّ الصادرات والواردات شهدت انخفاضاً كبيراً غير متوقع. فقد هبطت الأولى بنسبة 2.2 في المئة، وتراجعت الثانية بنسبة 17.9 في المئة، مقارنةً بالفترة نفسها من العام الماضي.