ليس في المخيمات الفلسطينية الكثير من الغزّاويين. بعضهم في مخيم برج البراجنة وأكثر بقليل في عين الحلوة في صيدا. منذ السبت الماضي، كان سهلاً العثور على الغزاويين بمجرد الذهاب لـ«السنترالات». فالخط الهاتفي الذي فتحته وزارة الاتصالات اللبنانية أخيراً مع غزة كان أشبه بقشّة تعلّق بها الكثيرون في اليومين الماضيين. ولو أن الخط كان يعاني ما تعانيه الشبكة عند أي عدوان
برج البراجنة ـ راجانا حمية
عين الحلوة ـ خالد الغربي
كالعاصفة الباكية، تدخل سيدة خمسينيّة إلى سنترال الحي الغربي في مخيم برج البراجنة، وهي تنتحب. تركض نحو غرف الهاتف العمومي الثلاث، وتطرق بقوّة على أبوابها الواحد خلف الآخر، لعلّ أحد شباب الغرف ينهي مكالمته لتستطيع إجراء مكالمتها. دقائق قليلة، ويخرج أحد الشبان. تسرع السيدة الخطى نحو صاحب السنترال وتطلب منه رقماً بدا بالمفتاح 970. أنه في غزة. تدخل مسرعة إلى الغرفة. تقبض على سماعة الهاتف، فيما تمسح بيدها الأخرى دموعاً سالت على وجنتيها المحمرتين من شدة البكاء. تقف طويلاً في الغرفة الصغيرة بانتظار أن «يعلق» الخط، قبل أن يأتيها صوت من «هناك». فجأةً تصرخ في كابينتها الزجاجية قائلة: «يمّا، مين اللي راح؟» ثانية من الصمت كأنها دهر، ثم يعلو بكاؤها وتخرج من المكان. «كانت تكلم ابنتها في غزة لتستعلم عن أسماء الذين سقطوا في المجزرة»، يقول صاحب السنترال، بعدما تركت المرأة التي بدا كأنها أتت للتأكد من خبر ما، مكانها وهي لا تزال تنتحب. لم يستطع أحد سؤالها عمّن فقدت. كان هذا أمس في مخيّم برج البراجنة. في الخارج، شباب يُشغلون بإشعال الإطارات عند مداخل المخيّم، وصبية يجولون بدرّاجاتهم الناريّة الرافعة للأعلام المختلفة، وغزّاويون قلائل يغرقون في ثياب الحداد ويبكون أمام السنترالات. على الرغم من قلّتهم، إلا أنّ الوصول إليهم كان سهلاً، فكل ما كان علينا فعله، هو انتظارهم أمام السنترالات الهاتفية المنتشرة بكثرةٍ في الأحياء، أو السؤال عن «عائلة غزّاوية» تسكن هناك.
العائلة الغزاوية الأولى كانت هناك أول المساء، على مقربة من مستشفى حيفا. فقد «طفش» حسام وسامر أبو اللبن من البيت نهاراً لكي لا ينظرا إلى التلفزيون «لأنو عاجزين نعمل شي. لو في مكان منقدر نوصل منو لكنا حملنا البنادق، ونزلنا معاهم، ولكن ما فيناش نعمل إشي» يقول حسام الذي لم يرَ من المجزرة سوى الصورة التي كانت تعرضها إحدى القنوات التلفزيونيّة لشهداء كليّة الشرطة، والتي شاهدها مع زملائه قبل خروجه من عمله، قبل أن «يطفش» في الشوارع باكياً. أما أخوه سامر، فقد شُغل ووالدته في المنزل بالاتّصال للاطمئنان إلى أخته نانا، العروس التي رحلت إلى هناك قبل خمسة أيّام. لم تجب نانا بادئ الأمر على اتّصال أخيها سامر، وبعد عدّة محاولات، جاء صوتها على الطرف الآخر وهي تقول «إحنا بحال منيحة بس القصف أقوى من حرب تمّوز»، وتقفل الخطّ.
في بيتٍ غزّاويٍّ آخر، كانت آثار البكاء لا تزال بادية على الوجوه. فالعائلة تركت في غزّة أكثر من خمسة أقرباء يعيشون في «مكانٍ قريبٍ جدّاً من المجزرة»، كما تقول فاديا محمّد. كانت عينا فاديا متورّمتين، فعندما اتّصلت بشقيقتها في بيت حانون «كانت بتولول، وبتقول يا إختي ناطرين رحمة الله واللي جاي». أمّا صلاح ضاهر، ابن غزّة هو الآخر، فقد اختار على ما يبدو النوم طريقاً للهروب من التوتر، تاركاً أمر السؤال عن أقربائه في حيّ الرمال لزوجته. فهو، كما قال لنا عندما أيقظوه، لم يعد قادراً على الانتظار «فإمّا يبقون أحياءً أو يستشهدون ولا حلّ ثالث». يقول ذلك ثم يسرح بنظره إلى البعيد.
وفي صيدا، مشهد آخر. فمنذ أن شاهد تلك المشاهد على الشاشة والغزاوي محمد راجح نصر «أبو أيمن» (71 عاماً) ما فتىء يضرب كفاً بكف مولولاً «راحوا الأولاد»، قاصداً أولاد إخوته في رفح التي غادرها يوم كانوا صغاراً. أتاه الفرج أمس بعدما تجاوب هاتف عائلة ابن عم الشاعر الراحل محمود درويش، المقيم في صيدا القديمة، التي تطوعت في تأمين الاتصال لأبي أيمن. «هنا غزة» يجيب الرقم قبل أن يتوافر على الطرف الآخر عادل نصر (41 سنة) ابن شقيقه. تفيض عينا أبو أيمن بالدمع، فهو سمع للمرة الأولى في حياته كلمة «مين عمي أبو أيمن؟» يبرد قلبه قليلاً بعد تأكّده من أن «ربعنا بخير».
حرارة الاتصال وحرارة الوضع في غزة تفرضان «أجندة» المكالمة. عبر الهاتف يوزع أبو أيمن قبلاً بالجملة «هذه لأرض رفح والثانية لعادل وأولاده الستة وثالثة لنادر ولعائلته». فريال أبو شاهين زوجة أبو أيمن تتصل بدورها بشقيقتها عدلة في مخيم البريج وتتكلم مع كنّتها منى التي تبلغها أن الجميع بخير لكن جارهم «أبو الروس» قد استشهد في الغارة و«حماتي عدلة في الأجر (العزاء) خالتي شو بخبرك شب متل القمر وكان عرسه قريب».
تزداد مخاوف ديب مطر خليل نصار، من منطقة «النصيرات» كلما باءت محاولاته للاتصال بالفشل. وأخيراً «يعلق» الخط مع شقيقه أبو فوزي في غزة : «خوي طمني، مين؟...الله يرحمه، وانتبهوا كتير. يلعن أبو هيك حكام عرب». يختم أبو فوزي اتصاله ويخبرنا أن من ترحم عليه هو شقيق أم فوزي الذي كان أحد أفراد الشرطة الفلسطينية الذين استشهدوا في إحدى الغارات.