صنّف الحركة «عصابة» وطلب «تأديب» قادتها■ الزهّار خُدعَ وضباط الشرطة دفعوا الثمن
■ المقاومة في فلسطين تستعدّ لتوسيع المواجهة

«لا يتعلق الأمر بمحاولة إسقاط حماس في غزة، بل بإيجاد قواعد لعبة جديدة، وإلزام حماس الخضوع لاتفاق جديد لوقف النار في سبيل تحسين الواقع الأمني جنوبي البلاد». حتى اللحظة هذه هي الجملة الوحيدة المفيدة في كل الكلام الإسرائيلي عن أهداف الحملة الإجرامية المفتوحة ضد قطاع غزة

إبراهيم الأمين
في الرابع من تشرين الثاني الماضي، زار وفد من حركة «حماس» القاهرة والتقى برئيس الاستخبارات العسكرية المصرية اللواء عمر سليمان، وناقش معه الملف الخاص بالوضع في قطاع غزة والحوار الفلسطيني ـــــ الفلسطيني، إضافة إلى العلاقات بين الحركة والقيادة المصرية، وما يتصل بملف التهدئة مع إسرائيل.
يعرف وفد «حماس» أن العلاقات ليست جيدة، وليست في أحسن أحوالها مع القاهرة، ولا سيما مع سليمان. وكان قد وصل إلى قيادة «حماس» كلام منقول عن لسان قيادات مصرية، وأبرزها سليمان نفسه، فيه لوم وانتقاد وعتب وأمور أخرى. لكنّ المفاجأة كانت في سماع وفد «حماس» كلاماً مباشراً وقاسياً على لسان سليمان الذي قال له «إن ما تقوم به قيادتكم خطير، وأنا أقول لكم إن أبو الوليد (خالد مشعل) سوف يدفع الثمن».
سبق ذلك طلب تقدم به الجانب المصري المعني بملف غزة من جميع الفصائل الفلسطينية تجاوز موقف «حماس» بما خص الحوار. وعندما أعلنت «حماس» رسمياً قرارها عدم المشاركة في الحوار، راح سليمان يرفع من سقف الحملة عليها، وقال كلاماً وصل إلى المعنيين على دفعات وفيه: «إنهم عصابة يتصرفون كأنهم كل الدنيا. لقد أصابهم الغرور ومشعل يتصرف كأنه أكبر من مصر، وأكبر من العالم العربي، وهو يسعى إلى إقحام كل حماس في خطوات هدفها تجاوز المصالح الخاصة بالجميع. هذه عصابة تحتاج إلى تأديب، وعلى هؤلاء أن يدفعوا ثمن ما يقومون به، والأمر لن يقتصر على الموجودين في غزة، بل الموجودين في دمشق أيضاً».
ويبدو أن الموقف المصري يتصل أكثر بخطوات تعود إلى فترة سابقة. حتى إن سليمان لم يكن يخفي رفضه لأي تعاون مع حركة «حماس» منذ فترة غير قصيرة، وهو حاول أن يطوّق الحركة ومن يناصرها في أكثر من مجال. بدأ بتعطيل كل محاولة لتنشيط العمل والدعم من خلال الحدود مع القطاع المحاصر. وعندما اقترب موعد البحث في التهدئة القائمة بين قوى المقاومة وإسرائيل، بدا سليمان في لقاءاته قليل الارتياح إلى سعي إسرائيل لتجديد هذه التهدئة وسريعاً. وهو عاد واستفاد لاحقاً مما سمّاه «شروط حماس» التعجيزية حيال تجديد التهدئة، وشنّ حملة قاسية عليها وعلى قيادتها. واتهم سليمان مشعل بأنه سعى إلى منع قيادة «حماس» في غزة من الذهاب نحو تسوية في ما خصّ الحوار وفي ما خصّ أموراً أخرى. وقال سليمان «إنّ مشعل دعا إلى لقاء مع قيادات الفصائل الفلسطينة وطلب منها عدم المشاركة في حوار القاهرة قبل تحقيق سلسلة من الشروط». ثم تحدث سليمان عن سعي مشعل إلى الإمساك بالقرار في «حماس» من كل جوانبه، وأنه يتصرف بالأموال ويصدر الأوامر، وأنه استمال رئيس الحكومة إسماعيل هنية إلى جانبه، وأنه يقود «حماس» في الضفة ويطلب إليها الضغط على قيادة الحركة في غزة لمنع إبرام أي اتفاق.
ومع أن سليمان لم يكن يوماً مغرماً بـ«حماس»، إلا أنه كان يحرص على أشكال مختلفة للتواصل معها، سواء مباشرة أو من خلال شخصيات فلسطينية عامة، أو حتى من خلال قوى حليفة لـ«حماس» مثل حركة الجهاد الإسلامي. لكنّ سليمان قرر وقف أي نوع من الاتصال، مكرراً أمام من يزوره أن «على مشعل أن يعتذر منه ومن مصر، وقبل ذلك لن يحصل أي تواصل». كما كرّر سليمان معزوفته بشأن «رهن حماس قرارها للقرار الإيراني ـــــ السوري، حيث لا توجد حماسة لتوافق فلسطيني ـــــ فلسطيني الآن»، وأن «قيادة حماس ومجموعات أخرى تعمل وفق نظام مصالح لا تخص الشعب الفلسطيني. فهم يدعمون حزب الله في لبنان ضد الآخرين، وهم مستعدون لمنع حصول أي توافق أو هدوء حتى يتسلّم الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما منصبه، وحتى انتظار ما ستؤول إليه الانتخابات في إسرائيل».

إسقاط «حماس»: الحوار والحصار والحرب

مسلسل إسقاط «حماس» بدأ مبكراً. يوم نجحت في الانتخابات، كان هناك توجه لمقاطعتها ومحاصرتها وعزلها. كانوا يعتقدون أن في ذلك ما يضعف الحركة ويكشفها. وبعد فشل هذه التجربة، لجأ الجميع إلى الحصار المباشر، الذي كان يهدف إلى إظهار «حماس» غير قادرة على إدارة مدرسة، فكيف إدارة شؤون مليون ونصف مليون بشري؟ ثم فشلت هذه التجربة، فانتقل الجميع، أميركا وإسرائيل والعرب، إلى مرحلة الحوار. كان الأوروبيون قد نصحوا بالاحتواء من خلال الحوار. وهو الأمر الذي بدأ عادياً ثم تحول إلى حالة فرض شروط على «حماس» من خلال الحوار وبرنامجه، سواء في ما خصّ الحوار الفلسطيني ـــــ الداخلي، أو من خلال المفاوضات بشأن ملف التهدئة، أو حتى المفاوضات الخاصة بتبادل الأسرى والمعتقلين.
وإزاء فشل هذه المحاولة، بدا أن الجميع أمام الحائط، وأنه ليس هناك سوى الحرب والعملية العسكرية لمواجهة الوضع وإسقاط «حماس»، وخصوصاً بعدما تعذّر إعادة فتح معركة أهلية داخلية في غزة، وهو الأمر الذي تطلّب في لحظة معينة أن يتوجه الجميع من خصوم «حماس» نحو إسرائيل لكي يشجّعوها على شنّ عملية عسكرية واسعة.

حسابات إسرائيل

لم يكن الإسرائيليون يحتاجون إلى إذن للقيام بالعمل العسكري الواسع. لكن ثمة اعتبارات عديدة كان لا بد من أخذها بالاعتبار، بينها ما يتصل بالوضع الإسرائيلي الداخلي ومعركة الانتخابات والمرحلة الانتقالية التي تعيشها الإدارة الأميركية، وصولاً إلى الملف الميداني الذي يخصّ جيش الاحتلال. وكانت إسرائيل تدرس الجانب المتصل بالوضع العربي، لأنه في حالة عدم توافر عناصر دعم وتغطية من قبل دول عربية بارزة، فإن تل أبيب سوف تكون مضطرة إلى صياغة الموقف بطريقة مختلفة.
ولاحظت مصادر مطّلعة أن العمل جرى بقوة، منذ ثلاثة أسابيع على الأقل، على هذه النقطة، وكان العنوان الرئيسي للاتصالات هو مصر ومن خلفها محور الاعتدال العربي والجانب الفلسطيني نفسه، لجهة حجم استعداد حكومة الرئيس محمود عباس لتغطية العملية لناحية تحميل «حماس» المسؤولية من خلال رفض الهدنة ورفض الحوار.
المقارنة بين ما جرى في لبنان عام 2006 وما يجري الآن كانت حاضرة في أذهان الجميع. وقتها، حمل العالم العربي على حزب الله واتهمه بـ«المغامرة غير المحسوبة»، بعدما اتخذت إسرائيل عملية الأسر ذريعة مباشرة لعدوانها، ومن ثم رفع هؤلاء العرب مستوى الخطاب المذهبي في محاولة لعزل حزب الله كقوة شعبية أو كامتداد لإيران، يضاف إلى ذلك وجود انقسام سياسي داخلي لبناني واستعداد من قوى لبنانية لملاقاة هذه الحملة. لكن ملف غزة و«حماس» كان يتطلب إجراءات أخرى، أبرزها الغطاء المصري ومشاركة قيادة أبو مازن، لأن في ذلك ما يعزّز الانقسام الفلسطيني حول الحركة الإسلامية، ويدفع قسماً من الفلسطينيين ومن العرب إلى تحميل «حماس» مسؤولية إيصال الأمور الى هذا الحد.
ولكن إذا كان الفريق العربي، ولا سيما مصر ومعها السعودية والأردن، يريد التخلص من «حماس» نهائياً، فإن إسرائيل لا تقيس الأمور على هذا النحو، لأن «هدف إسقاط حكم حماس» يحتاج كما يقول الاسرائيليون الى عناصر لا يمكن حصرها بالدعم الكلامي والمواقف السياسية: أولاً، الى حرب طويلة الأمد، والى مواجهات ليس معروفاً المدى الذي تذهب إليه، وهو ما دفع إسرائيل مبكراً الى الاستفادة من أخطاء حرب لبنان بوضع هدف «متواضع» للعدوان قياساً بطموحاتها أو رغبات وطموحات الشركاء من العرب والغرب على حد سواء.
ثم إن إسرائيل تريد ثانياً من عملية كهذه تحقيق سلسلة أهداف لا تتصل بالصراع المباشر مع الفلسطينيين؛ ففي جيش الاحتلال هناك الحاجة اليومية الى ما يسمّى «إعادة الاعتبار» للهيبة والقوة الردعية التي تعرّضت لضربة كبيرة بعد حرب لبنان. وربما لهذا السبب كان الفريق العسكري والامني بقيادة إيهود باراك من اتخذا القرار الأخير. كذلك تحتاج إسرائيل الى توجيه رسالة مباشرة الى سوريا وإيران تعويضاً عن غياب الأفق للقيام بعمل مباشر ضد هاتين الدولتين بهدف منعهما من استمرار الدعم لـ«حماس» في فلسطين وحزب الله في لبنان، عدا عن وجود هدف آخر في ذهن قيادات إسرائيل العسكرية والسياسية وحتى الأمنية، يتصل بأن يكون حزب الله يراقب ويشاهد ما جرى، وإشعاره بأن هذه الوحشية وهذه الدموية سوف تكونان معياراً في أي مواجهة مقبلة معه.

الحرب والتضليل ودور مصر؟

بعد قيام وزيرة خارجية إسرائيل تسيفي ليفني بزيارة الى القاهرة، كانت تصريحاتها واضحة حيال النية والقرار لدى إسرائيل بشن حرب حقيقية على غزة، وهو الأمر الذي كان حاضراً في كل مداولات المعنيين في المنطقة. ومن جهتها، كانت فصائل المقاومة في القطاع ولا سيما حركة «حماس»، تتصرف على أساس أن الجميع مقبل على مواجهة، وتفاوتت التقديرات بشأن حجم العدوان وطبيعته. ولكن الإجراءات الميدانية والحذر والتحسب كانت حاضرة بقوة، وأخليت جميع المواقع والمنازل والاماكن التي يلجأ إليها عادة قياديو الحركة من السياسيين ومن الجسم العسكري أيضاً، حتى حركة هؤلاء الميدانية تعرّضت لتدابير هدفها الحؤول دون تعريضها للضربة الاولى. وثمة اعتراف في قيادة «حماس» بأن التوقع كان يركز على تعرّض هؤلاء لضربة أولى بهدف تخريب وحدة القرار. ومع ذلك فإن الإجراءات شملت كل القطاعات، حتى قيادة الشرطة، التي تتمتع «حماس» بنفوذ كبير فيها، كانت تخضع ضمناً لهذه الإجراءات، ولكن ليس بالوتيرة نفسها باعتبار أن الشرطة هي جهاز شبه مدني ويعمل على متابعة ملفات يومية للناس تفترض حضوره وانتشاره في مقاره وفي جميع المناطق.
ورغم هذا، فقد تلقت قيادة الشرطة أمراً بعدم إقامة حفل تخريج عدد من الضباط خشية التعرّض لعملية عسكرية إسرائيلية. وعندما عادت ليفني الى تل أبيب، بادر القيادي في «حماس» محمود الزهار الى الاتصال بمسؤول مصري رفيع عاتباً ومحتجاً على السماح لليفني بإعلان نية شن الحرب من على منبر رسمي مصري. ولكن الزهار سمع كلاماً مفاده أن ما قالته ليفني لا يعبّر بالضرورة عن واقع القرار في إسرائيل وأن هناك الكثير من التهديدات تطلق في سياق انتخابي. وعندما عقدت مشاورات لاحقة على مستوى قيادة «حماس»، كان هناك التفسير المباشر الذي يقول بأن المصريين أوصلوا رسالة واضحة الى الحركة الإسلامية بأن ليس هناك عملية وشيكة. وعندما أثير موضوع تخريج الضباط من جديد، جرت المزيد من المشاورات وجرى الوقوع في فخ بعض الإشارات الاضافية التي جاءت من إسرائيل، ولا سيما فتح المعابر، ما دفع إلى التعامل مع الأمور على أساس استبعاد عدوان وشيك. ومع ذلك، فإن الجسم السياسي القيادي كما الجسم العسكري بقي خاضعاً للإجراءات نفسها وسمح فقط بالاحتفال الخاص بالشرطة، الذي افتتح العدو هجومه المفاجئ على القطاع بضربه.
حتى في إسرائيل نفسها، كان هناك من يخشى تسرّب المعلومات عن قرار العملية العسكرية، ونشرت صحافة إسرائيل أمس أنه نظراً إلى وجود خشية من تسرّب نبأ التصديق على العملية في المجلس الوزراي المصغر، اضطرت الحكومة الى اتخاذ إجراءات جديدة منها نفي وجود قرار وأن المجلس عرض الأمر فقط، ثم إعلان باراك نية إدخال مساعدات إنسانية والحديث عن اجتماع آخر سيعقد الأحد لبتّ الأمر.

الوزن النوعي ــ في غزة!

ومع بدء العملية، كان واضحاً أن إسرائيل تريد تكرار تجربة بداية الحرب في لبنان عام 2006، حيث انطلقت الطائرات في غارات مكثفة على نحو 42 هدفاً اختارتها الاستخبارات العسكرية تعتقد إسرائيل أنها المراكز الاساسية لقيادة التحكم والسيطرة ومخازن الصواريخ الطويلة المدى ومستودعات الذخيرة ومقار مفترضة للقيادات العسكرية والسياسية. ويبدو أن في إسرائيل من هو مقتنع بأن الغارات على غزة حققت أهدافها وأنه تم تدمير كل المواقع التي تخصّ عمليات إطلاق الصواريخ من القطاع، وهو موقف يشبه ما هو موجود حتى اللحظة في أذهان إسرائيل عن نتيجة عملية «الوزن النوعي» التي استهدفت حزب الله في اليوم الأول من الحرب عام 2006 حين تحدث الإسرائيليون عن تدمير كل مواقع ومنصات الصواريخ البعيدة المدى الخاصة بالحزب، حتى إن محرراً بارزاً مثل بن كسبيت كتب أمس أن الضربة الجوية كانت «دقيقة وفتاكة. إنه عمل نموذجي استخباري، وغرفة حرب مشتركة بين الشاباك والجيش الإسرائيلي للمرة الأولى. ومثلما حصل في حرب لبنان الثانية، حين أبيدت من الجو في غضون ثلاث وثلاثين دقيقة جميع صواريخ حزب الله البعيدة المدى، ففي غزة أبيدت من الجو في غضون ثلاث دقائق كل مواقع الإطلاق تحت الأرض التي أعدّتها حماس».
إلا أن حقيقة الأمر سوف تظهر توالياً، باعتبار أن «حماس» استفادت كثيراً من الأعوام القليلة الماضية لتعزيز ترسانتها العسكرية على اختلاف أنواعها؛ ثمة إجراءات اتخذت وأخرى في سياق الإعداد لمرحلة أصعب من المواجهة، وهو أمر يحتمل ما يرد في ذهن الاسرائيليين: صواريخ من أنواع جديدة سوف تسقط على مناطق جديدة في إسرائيل، واستئناف ما كان مجمداً على صعيد العمليات الفدائية الاستشهادية في أي مكان يصل إليه عناصر «حماس». لكن الأهم من كل ذلك، هو أن الأمر قد لا يظل محصوراً في جبهة واحدة أو في مكان واحد أو مع جهة واحدة.