قد تكون القمّة الماليّة التي تستضيفها واشنطن في نهاية الأسبوع الجاري، أهم ما ينهي به الرئيس الأميركي جورج بوش عهده، ليس لأنّه من المنتظر أن تأتي القمّة بالعلاج للأزمة الماليّة بل لأنها ستمهّد لنقاش طويل لإعادة بناء النظام المالي عبر حوار يرمي إلى إعادة توزيع النفوذ الاقتصادي بعيداً عن «نموذج آلان غرينسبان»
نيويورك ـــ نزار عبود
إنتاج معاهدة «بريتون وودز» لإعادة هيكلة النظام المالي العالمي، استغرق عامين من التخطيط والنقاش الذي بدأ عام 1944. والمرحلة الحاليّة التي يعيشها النظام تقتضي إعادة النظر في تلك المعاهدة، وبناء مؤسسات أكثر تطوّراً من تلك التي أنتجتها، قادرة على التكيف مع الأزمة الماليّة. ولكن النقاشات في هذا السياق قد تستغرق وقتاً طويلاً: سنتين أو أكثر بحسب تقديرات رئيس صندوق النقد الدولي، دومينيك شتراوس ـ كان.
ومن هذا المنطلق، قد يصعب توقّع ما ستتوصّل إليه قمة الدول العشرين الكبرى (G20) من توصيات سريعة رغم التكهّنات الكثيرة المتعلقة بمنح دور أكبر للاقتصادات الصاعدة من الخليج النفطي إلى الصين الصناعية، نظراً لملاءتها النقدية العالية وتمتعها بفائض نقدي هائل يمكن توظيف قسم منه في تخفيف حدّة الأزمة. إلّا أنّ خبراء الاقتصاد عكفوا خلال الأسابيع الأخيرة على تشخيص أسباب المشكلة التي يعيشها العالم، وتوصّل بعضهم إلى نتائج أثارت جدلاً لدى صنّاع القرار في العواصم الغربية على وجه الخصوص.
فهم لا يلومون الدول النفطيّة على ما آلت إليه الأوضاع نتيجة ارتفاع أسعار النفط، بل يلومون «عبقرية» الرئيس السابق للاحتياطي الفدرالي الأميركي، آلان غرينسبان، بسبب الأذى الذي ألحقه بالولايات المتحدة وسمعتها: «ربما أكثر من أسامة بن لادن» على حدّ تعبير وزير الاقتصاد والمال الإيطالي جوليو تريمونتي.
غرينسبان تمتع على مدى عقدين من تربعه على عرش المصرف المركزي بسمعة صانع المعجزات ومحفّز النهضة الاقتصادية العظمى في الولايات المتحدة. فهو جاء إلى مجلس الاحتياطي الاتحادي كـ«إطفائي» بعد أزمة عام 1987 وواكب أزمة عام 2001 التي سبقت الهجمات الإرهابيّة في 11 أيلول، وغادر منصبه في مطلع عام 2006.
هو المدافع الكبير عن حرية السوق والرافض لتنظيم قطاعاتها الجديدة، ولا سيما المشتقات المالية. وهو يُتّهم حالياً بأنّه المسؤول الأوّل عن الفوضى الحاصلة. وساعده في «أفعاله» وزير الخزانة السابق، روبرت روبين، ورئيس هيئة الرقابة المالية السابق أرثر ليفيت.
هذه الملامة تشبه تلك التي وجّهت خلال أزمة انهيار الأسواق في تشرين الأول عام 1987، إلى أربعة من كبار «جهابذة» وول ستريت الذين رعوا ثورة «سندات الخردة». وهؤلاء كانوا مايكل ميلكين، ودنيس ليفين، وإيفان بويسكي ومارتي سيغل. وعندما كتب محرر الصفحة الأولى في صحيفة «وول ستريت جورنال»، جيمس ستيوارت، كتابه الشهير «عرين اللصوص»، عن الذين تاجروا بأسرار البورصة، اتّهم بمعاداة السامية ولوحق في الإعلام لسنوات.
اليوم غرينسبان هو المتهم تحديداً بتقويض دور هيئة رقابة الأوراق المالية والصرف التي كان يرأسها بروكسلي بورن. وكان الأخير ينوي تنظيم سوق عقود الأسواق الآجلة إلّا أنّ غرينسبان رفض ذلك. وأدى عدم تنظيم سوق عقود الرهن العقاري تحديداً إلى حدوث الكارثة الحاليّة.
كان غرينسبان مسؤولاً عن خفض فائدة الأساس المصرفية إلى واحد في المئة لمدة عام كامل في 2002. فأتاح بذلك فرصة الحصول على قروض زهيدة الكلفة غصّ بها النظام المالي وسمحت بمضاربات في شتى مناحي الحياة الاقتصادية. وفُسّرت خطواته آنذاك بأنها ترمي إلى درء خطر الانزلاق إلى ركود بعد أزمتي فقّاعة سوق أسهم شركات الإنترنت والهجمات الإرهابيّة على نيويورك وواشنطن.
ويمكن أن تتعدّد الطروحات في شأن الأسباب الرئسيّة للأزمة، ولكن في قمّة «G20» في واشنطن سيواجه صندوق النقد الدولي اتهامات بأنه فشل مرة أخرى في إطلاق صفارة إنذار بشأن الأزمات المالية كما جرى في الأزمة المالية الآسيوية. وسيطلب زعماء من الصندوق أن يتحول إلى هيئة تنظيمية للأسواق المالية. وهنا يردّ شتراوس ـ كان مدير الصندوق في حديث لصحيفة «فايننشال تايمز» قائلاً إنّ مهمة مؤسّسته ليست إدارة الأسواق المالية، بل إعداد الدراسات الاقتصادية وتقديم المساعدات المالية في الحالات الطارئة. ويخالف هذا الموقف ما صدر عن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، ورئيس الوزراء البريطاني غوردون براون.
إذاً فالقمّة ستحتضن نقاشات كثيرة، تبدأ بضرورة منح الدول النامية صوتاً أكبر في المؤسّسات الماليّة الدوليّة وصولاً إلى زيادة الرقابة على النظام، وليس واضحاً بعد ما ستكون نتيجتها بالتحديد. ولكن الأكيد أنّ «النموذج» الذي روّج له غرينسبان لم يعد مقبولاً من جانب أوروبا والبلدان النامية بالحدّ الأدنى، وهذه المرحلة هي لمنح الاعتبار لتلك البلدان.




قشعريرة وإنقاذ

في توقّعاته الأخيرة بشأن النموّ العالمي توقّع صندوق النقد الدولي أن تتقلّص اقتصادات البلدان الصناعيّة بنسبة 0.3 في المئة، وأن تتراجع نسب النموّ في الاقتصادات النامية أيضاً. الموضوع أثار قشعريرة في الأسواق المالية لن تتبدد في قمّة واشنطن، ذلك أن الخلاف على تشخيص أسباب الأزمة لا يقل خطورة وأهمية عن صعوبة وصف العلاج لها... الدولار تربع على عرش الذهب عام 1971. ولكن بعد 38 عاماً على ذلك الحدث، و62 عاماً على معاهدة «بريتون وودز»، لم يعد مستغرباً إعادة النظر في كلّ شيء لإنقاذ ما يمكن
إنقاذه.