ليس إعلان المصرف الأميركي «CITIGROUP» أنّه ينوي طرد 53 ألف موظّف، سوى مؤشّر آخر إلى أنّ الأزمة في الولايات المتّحدة لا تزال تخبّئ الكثير، وخصوصاً أنّه بعد أكثر من شهر من بدء تطبيق خطّة الـ700 مليار دولار، لا يزال المستثمرون حذرين، والاقتصاد تزداد مصاعبه، فالمحلّلون يتوقّعون ارتفاع معدّل البطالة إلى 7.5 في المئة العام المقبل
حسن شقراني
قبل 60 يوماً من انتقال الرئيس الأميركي المنتخب، باراك أوباما، إلى البيت الأبيض، وبدء مرحلة جديدة على ما يبدو، على كل الأصعدة في الولايات المتّحدة، ظهر أمس، أنّ فصول الأزمة الماليّة لا تزال في بدايتها، حتّى في القطاع المصرفي الذي يخضع لمفاعيل خطّة إنقاذيّة يبدو أنّها ليست على قدر المطلوب، ليس كمياً بل كيفياً.
فقد أعلن المصرف العملاق «CITIGROUP»، أنّه سيخفض عدد موظّفيه حول العالم بنسبة 20 في المئة، رغم أنّه استفاد خلال الشهر الماضي من مبلغ الـ125 مليار دولار الذي خصّصته الحكومة لدعم أكبر 9 مصارف في البلاد من خلال المشاركة في رساميلها.
وهذا الإجراء، بحسب الرئيس التنفيذي للمصرف، فيكرام بانديت، يأتي في إطار إجراءات خفض الأكلاف بنسبة 20 في المئة خلال المدى القصير، وسيخفض عدد الموظّفين إلى 300 ألف موظّف. وقد اتخذته إدارة المصرف بعد خسارة بلغت 20 مليار دولار خلال الفصول الأربعة الماضية، وزادت من تأثيرها الظروف الصعبة في الأسواق، وتداعيات الأزمة واستمرار المنتجات الماليّة المريبة بخلق أجواء غير صحيّة وغير مفيدة لتحفيز الائتمان.
ولكن فيما يُعتبر خفض الأكلاف، وبالتالي طرد الموظّفين «عاملاً محفّزاً» للمصرف المتعثّر، يعدّ حدثاً مقلقاً بالنسبة للاقتصاد ككلّ الذي حذّرت الرابطة الأميركيّة الوطنيّة أمس، من أنّه دخل في مرحلة ركود سيستمرّ حتّى العام المقبل وسيرفع نسبة البطالة إلى 7.5 في المئة بحلول الربع الثالث من عام 2009.
وهذه المرحلة المتوقّع أن يعاني خلالها اقتصاد الولايات المتّحدة، سبقتها أوقات كان يمكن أن تستغلّ لتحفيز الاقتصاد الذي تأثّر بشدة من الأزمة الماليّة وفقدان الثقة في الأسواق. ولكن هذا التحفيز لم يتمّ حتّى. بل لوحظ أنّ الإدارة لاأميركيّة تتخبّط في إنتاج الترياق المثالي للأسواق.
فخطّة الإنقاذ المالي البالغ حجمها 700 مليار دولار، والتي خضعت للكثير من الانتقادات قبل إقرارها، كانت تهدف بالدرجة الأولى إلى شراء المنتجات الماليّة التي لها علاقة بالرهون العقاريّة التي أدّت إلى انطلاق الأزمة أساساً. ولكن تبيّن أنّ هذه العمليّة معقّدة جداً، ولن تستطيع بموجبها وزارة الخزانة إزالة الشكّ وعدم الثقة بين المؤسّسات الماليّة، من أجل استكمال الأنماط الطبيعيّة من الإقراض والائتمان التي يعتمدها الاقتصاد الأميركي مثلما هي الحال في معظم اقتصادات الرأسماليّة المعولمة.
ونتيجة لذلك، لجأ وزير الخزانة هنري بولسون إلى اعتماد المقاربة الأوروبيّة، التي اعتُبر رائدها رئيس الوزراء البريطاني، غودرون براون. وقد دعم رساميل المصارف الأميركيّة بـ250 مليار دولار: الحكومة تدعم المصارف لكي تستأنف هذه الأخيرة عمليّات الإقراض، وفي الوقت نفسه تضمن أموال دافعي الضرائب من خلال المشاركة في أسهم تلك المصارف.
وحتّى هذا التعديل، الذي انتقد على أساسه كثيراً بولسون من منطلق أنّه لم يبلور الحلول الأجدى منذ البداية، أوضح أنّه غير فعّال أيضاً، فالمصارف التي حصلت على دفعة إنقاذيّة من خلال زيادة رساميلها بأموال حكوميّة، لم ترفع مستوى إقراضها، بل آثرت استخدام الأموال لأهداف أخرى، منها الاستثمار في شراء مصارف أخرى. وهنا طُرحت تساؤلات عن مدى صرامة الشروط التي وضعتها وزارة المال، وهل بالفعل ضغطت بما يكفي لربط المساعدة بضرورة رفع مستوى الإقراض؟ فمعالجة الاقتصاد الأميركي حالياً لم تعد متعلّقة فقط بتطهير «وول ستريت» بل بتحفيز الاقتصاد، وهو ما يقول أوباما إنّه يحضّر خطّة تفوق قيمتها الـ100 مليار دولار، لفعله.
وهذا التحفيز هوامشه ضيّقة جداً. ويمكن أن يتمّ، إلى جانب الدعم المباشر للمستهليكن من خلال خفوضات ضريبيّة، عبر حثّ المصارف على استعادة النشاط الإقراضي لتحريك الاستهلاك الذي يعتمد النشاط الاقتصادي بثلثيه عليه.
ولكن تلك المصارف وبعد عاصفة الرهون العقاريّة، يبدو أنّها رفعت المستويات التي تمنح على أساسها القروض. وفي الوقت الحالي، تعاني عائلات كثيرة من عبء الرهون وضعف الأعمال، ناهيك عن البطالة، ما يدفع إلى تقزّم مجموعة الأميركيّين «المؤهّلين للحصول على قروض، بعدما كانت الأزمة قد انطلقت أساساً بسبب منح القروض الهائلة إلى مستهلكين غير مؤهّلين!
لذا، فالاقتصاد الأميركي، قبل مرحلة التغيير التي يعد بها أوباما (وعلى رأسها التحفيز الاقتصادي) يتعرّض للمفاعيل الحقيقيّة للأزمة ويدخل في دوّامة ركود، قد لا يستطيع فيها الرئيس الديموقراطي اجتراح المعجزات!


أوقات الشدّة

بحسب دراسة إحصائيّة أجرتها وكالة «رويترز» بالتعاون مع جامعة «ميتشيغن» فإنّ «مزاج» المستهلكين الأميركيّين تحسّن قليلاً خلال تشرين الأوّل الماضي، بسبب الهبوط الكبير في أسعار الوقود، إلّا أنّ التوقّعات لم تتحسّن، ما يشير إلى أنّ المستهلكين لا يزالون يعتقدون بأنّ الاقتصاد لن يتحسّن بسرعة. وحتّى المستهلكون الأغنياء، الذين يُعتمد عليهم في أوقات الشدّة لتحسين الطلب، خفضوا إنفاقهم. وتورد الدراسة هنا أنّ مبيعات المتجر الفاخر «NEIMAN MARCUS» انخفضت بنسبة 25 في المئة في تشرين الأوّل الماضي على أساس سنوي.