في حزيران الماضي، مثّل الرفض الإيرلندي لـ«معاهدة لشبونة» ضربة قاسية على طريق الجهود لتمتين الوحدة السياسيّة في أوروبا. وفي 30 أيلول الماضي، اتخذت السلطات الإيرلنديّة «خطوة أحاديّة» لمواجهة أزمة الائتمان، تبعتها خطوات أحاديّة لبلدان أخرى أظهرت هشاشة الوحدة الاقتصاديّة بين البلدان الـ27. فهل تعرّي الأزمة الماليّة وحدة الاتحاد الأوروبي كلياً؟
حسن شقراني
أظهر تعرّض بلدان الاتحاد الأوروبي للمفاعيل الحقيقيّة للأزمة الماليّة، مدى الهشاشة بين البلدان الـ27، التي بدأت عمليّة تطوّر وحدتها منذ عام 1957، لتصل إلى مرحلة صعبة يتحتّم عندها حسم خيارات تتعلّق بالسياسة وتناقضاتها الناشئة من صعوبة خيارات السياسة الخارجيّة، وبالاقتصاد أيضاً في خضمّ زوبعة ماليّة، لا تهدّد فقط بإعادة هيكلة الأسواق الماليّة بل ربّما بإعادة إنتاج التكتّلات الاقتصاديّة ــ السياسيّة، بمعايير جديدة.
فرغم أنّ الاتحاد، على لسان رئاسته الفرنسيّة الحاليّة، تعهّد العمل بروح وحدويّة من أجل مواجهة تداعيات أزمة الائتمان، فإنّه لم يتخذ خيارات جذريّة في هذا السياق، عدا تعهّد وزراء ماليّة بلدانه رفع الضمانات المصرفيّة إلى 50 ألف يورو، خلال اجتماعهم في لوكسمبورغ أوّل من أمس. وهذا المبلغ لا يمثّل سوى 50 في المئة من المبلغ الفرنسي المقترح، الذي يعتبره الإليزيه مناسباً الآن لاحتواء تداعيات الأزمة على المصارف التجاريّة وعلى أموال المودعين الأوروبيّين.
الانقسامت ظهرت منذ بدأ الحديث عن القمّة الأوروبيّة التي جمعت زعماء أكبر أربعة اقتصادات في القارّة العجوز (فرنسا، إيطاليا، بريطانيا، ألمانيا) في باريس يوم السبت الماضي. فالاقتراحات الفرنسيّة من أجل بلورة الحلول، افترضت إنشاء صندوق أوروبي موحّد قيمته 300 مليار يورو، يخصّص لإنقاذ الأسواق الماليّة من المنتجات المقلقة، وذلك تماهياً مع الخطّة الأميركيّة التي أقرّت في الكونغرس الأسبوع الماضي، والتي تبلغ قيمتها 700 مليار دولار.
ولكنّ هذا الاقتراح قضي عليه في مهده، بعد معارضة شديدة من الزعماء الماليّين والسياسيّين في أكبر اقتصاد في أوروبا: برلين رأت حينها أنّه ينبغي عدم تحميل دافع الضرائب الأوروبي كلفة إنقاذ النظام الاقتصاي العالمي. فالمسؤوليّة عن تطوّر الأزمة الماليّة إلى هذا الحد هي أميركيّة.
وهذا التناقض الفرنسي ــ الألماني، يعبّر عن اختلافات جذريّة في الرؤية إلى العالم وكيفيّة طرح الحلول لمعالجة مشاكله. وتظهر هذه الاختلافات من خلال مقاربة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي لطبيعة تلك الحلول، وهي غربيّة الطابع بهامش كبير، ومن خلال الاستماع إلى حديث وزير الماليّة الألماني، بير شتاينبروك، الذي يشدّد على أنّ الولايات المتّحدة خسرت ريادتها الماليّة العالميّة، وبالتالي ريادتها السياسيّة.
«المسؤولون في أوروبا مجانين. لم نعش في كنف الشيوعيّة لمدّة 40 عاماً لنعود إليها تحت راية الاتحاد الأوروبي»، يشدّد وزير الماليّة التشيكي، ميروسلاف كراوتشيك، في سياق تعليقه على عمليّات ضمان الودائع في المصارف، الذي «لا يمكن تحمّل أكلافه».
وبالفعل فإنّ ما حدث في أوروبا خلال الفترة الأخيرة يعتبر جنوناً، من ناحية أنّ جميع الداعمين لعمليّة توسيع دور الاتحاد الأوروبي على الصعيد العالمي، كانوا يعتمدون في رؤيتهم على جوانب الوحدة الاقتصاديّة التي يتمتّع بها، وذلك بعدما شهدت عمليّة تطوير الدور السياسي الوحدوي للاتحاد ضربة قوّية سدّدها الـ«فيتو» الإيرلندي الذي وضع عمليّة الموافقة على معاهدة لشبونة، المفترض أنّها تحلّ مكان الدستور الأوروبي، على الأدراج.
ومن جهة أخرى فـ«إذا لم يتوحّد الزعماء الأوروبيّون من أجل معالجة هذه الأزمة (الماليّة) قبل أن تخرج مفاعيلها عن السيطرة، فسيجدون أنفسهم يتقاتلون بشأن الطريقة الفضلى لمعالجة النتائج»، تقول رسالة مفتوحة قدّمها 256 اقتصادياً أوروبياً لرئاسة الاتحاد الأوروبي أوّل من أمس. وتذكّر بـ«السنوات السوداء» التي حلّت على القارّة خلال ثلاثينيّات القرن الماضي، حين سيطرت على الاقتصاد العالمي موجة «الكساد العظيم».
وهذا الكساد، الذي نتج من انهيار في البورصة، لم تكن آثاره اقتصاديّة فقط، بل إنّه ولّد مفاعيل سياسيّة، حيث ظهرت على أثره في أوروبا حركات التشدّد الوطني، الفاشيّة، التي طرحت نفسها محافظة على المصالح الوطنيّة في بلدانها. وما تشهده أوروبا اليوم مماثل إلى حدّ ما، حيث أظهرت الإجراءات الفرديّة التي اتخذتها بلدان الاتحاد الأوروبي (قرارات ضمان الودائع) مدى حدّة توجّه «الحماية الفرديّة للمصالح الوطنيّة».
وهذا الأمر «غير مسبوق» لأنّه كشف «حدود الاندماج» بين بلدان الاتحاد الأوروبي ومستويات التنسيق في حال مواجهة أزمة من العيار الثقيل، يقول كبير الاقتصاديّين في «مركز الإصلاح الاقتصادي» في أوروبا، سايمون تيلفورد، حسبما تنقل عنه صحيفة «نيويورك تايمز». وبالفعل فإنّ الجهود الموحّدة لصيانة المصلحة الأوروبيّة فشلت في التبلور. وإذا لم يُعالَج هذا الفشل، فإنّ الخطر على بلدان أوروبا لن يكون فقط تداعيات الأزمة الماليّة، بل انهيار الوحدة الاقتصاديّة، والمصرف المركزي الأوروبي ربّما.


أزمة هيكليّة؟

يشدّد المدافعون عن الاتحاد الأوروبي على أنّ نظامه الاقتصادي، الذي يفتقر إلى وزارة خزانة مثل تلك الموجودة في الولايات المتّحدة، غير مؤهّل لمعالجة أزمات كبيرة من نوعية أزمة الائتمان. وهم يشيرون، من منطلق المقارنة، إلى أنّ وزارة الخزانة الأميركيّة لم تمنع البلاد من خلق فقّاعة الرهون العقاريّة، ولم ينجح في ذلك حتّى الكونغرس المفترض أن يرعى مصالح الأميركيّين. واللافت هو أنّ هذه الحجّة هي نفسها التي استخدمها مناهضو الخطط الموحّدة، فهم يقولون إنّ الإجراءات المنسّقة لمواجهة الأزمة غير ممكنة في ظلّ الهيكليّة القائمة!