غداة إعلان المصارف المركزيّة الكبرى حول العالم خفض أسعار الفوائد الأساسيّة بواقع نصف نقطة، انتعشت أسواق المال العالميّة نسبياً، لتدخل، ربّما، في مرحلة تعويض الخسائر لا تحقيق الأرباح. فمنذ عام وحتّى الآن، بلغت الخسائر في الأسواق الأميركيّة وحدها 7.4 تريليونات دولار. ودورة العلاج لن تنتهي قريباً
حسن شقراني
بلغت خسائر الأسواق الماليّة العالميّة خلال يومي السادس والسابع من الشهر الجاري، 6.5 تريليونات دولار، بحسب مؤشّر «S&P BMI GLOBAL»، وهي تشير إلى حجم الانخفاضات في القيمة السوقيّة للأسهم، في ظلّ موجة التراجعات الحادّة التي تصيب بورصات العالم بسبب أزمة الائتمان التي تضيّق الخناق على التعاملات الماليّة والأرباح الممكن أن تنتج عنها.
وخلال جلسات التداول الستّ حتى يوم أوّل من أمس، تراجع مؤشّر «DOW JONES» 1600 نقطة، أو بنسبة تقارب الـ15 في المئة من قيمته الإجماليّة، ليمحوَ بذلك 5 أعوام من الأرباح، يتضح أنّ استردادها لن يكون سهلاً، أو خلال فترة قصيرة.
فأزمة التراجع التي تشهدها السوق الماليّة الأميركيّة حالياً، تعدّ الثالثة من حيث الحدّة منذ منتصف أربعينيّات القرن الماضي. ومنذ تلك الفترة وحتى الآن، شهدت الولايات المتّحدة التي تعدّ بورصتها الأثقل في مؤشّر «S&P GLOBAL1200»، 10 أزمات في سوقها الماليّة، تعرّف على أنّها تتضمّن تراجعاً تزيد نسبته على 20 في المئة في مؤشّر «S&P 500». ومعدّل الانخفاض كان بحدود 31.5 في المئة. وحوالى نصف تلك الأزمات المذكورة انتهت بعد 12 شهراً من انطلاقها.
وفيما الأزمة الأكبر على الإطلاق، كانت تلك التي عصفت ببورصات العالم الرأسمالي عام 1929 وأطلقت الكساد العظيم الذي استمرّ خلال العقد الرابع من القرن الماضي، يبدو أنّ الأزمة الحاليّة بتعقيداتها وغموضها وسيطرتها على أسواق البلدان النامية والمتقدّمة عموماً، يتعلّق انتهاؤها بمدى جذريّة الإجراءات التي اتخذتها الحكومات عبر العالم من أجل السيطرة على المسار الانحداري في الأسواق. وتلك الإجراءات تمثّلت بخطّة إنقاذ قيمتها 700 مليار دولار في الولايات المتّحدة وبسلسلة من عمليّات «تصحيح» السوق عبر إنقاذ عناصره المتعثّرة في أوروبا، التي لم توحّد جهودها كلّيّاً.
واتّضح أنّ انتعاش الأسواق أمس، كان نتيجة مباشرة للإجراءات التي لجأت إليها المصارف المركزيّة، في محاولة يائسة لتبديد الهواجس في شأن ظلال الركود التي تسيطر على الاقتصاد العالمي، والتي تخيف المستثمرين المحتارين أين يوظّفون أموالهم في بيئة تتصف بخطورة متزايدة. فبحسب التقديرات الأحدث، التي أصدرها صندوق النقد الدولي، قد تصل الخسائر الناتجة عن الأصول الماليّة الخطرة، المتعلّقة بطريقة أو بأخرى بالرهون العقاريّة، إلى 1.4 تريليون دولار، قامت المصارف والمؤسّسات الماليّة حتّى الآن بشطب حوالى 50 في المئة منها. وذلك لا يأخذ بعين الاعتبار الخسائر التي لحقت بالبورصات.
إذاً، فهذه المرحلة من الهدوء النسبي في الأسواق، إذا استمرّت، ستخصّص لتعويض الخسائر التي تراكمت منذ اشتداد حدّة الأزمة التي بانت أولى بوادرها في آب من العام الماضي. وعلى سبيل المثال، أنهت أسواق الأسهم الخليجية تعاملاتها في أيلول والربع الثالث من العام بخسائر جماعيّة فادحة تعدّ الأكبر في تاريخها، فقد بدّد سوقا مسقط والدوحة كامل مكاسبهما للنصف الأوّل، التي لامست 30 في المئة وتحوّلت إلى الخسارة في الربع الثالث.
وإذا بالفعل قامت الدول الكبرى بإدارة إجراءات جذريّة لمعالجة الأزمة القائمة «بأفضل طريقة ممكنة»، على حدّ تعبير الرئيس الأميركي جورج بوش في سياق استعراضه لأوجه التعاون مع الدول الأوروبيّة أمس، وعوّض المستثمرون خسائرهم خلال هذه المرحلة، فإنّ المرحلة المقبلة ستشهد انتقال الأزمة من الجانب الوهمي من الاقتصاد (السوق الماليّة) إلى المكامن الحقيقية. فالخبراء الاقتصاديّون يعرضون منذ الآن سيناريوهات التراجع الاقتصادي المقبل. فبحسب الدراسات المختصّة بالأزمات السابقة التي عصفت بالأسواق الماليّة، والتي تحدّثت عنها مجلّة «TIME»، فإنّ تمدّد تلك الأزمات إلى باقي فروع الاقتصاد يتطلّب ما بين 18 شهراً وسنتين.
ولذا يشير الاقتصاديّون إلى أنّ العام المقبل سيكون حافلاً بالقياسات المتعلّقة بالانعكاسات الحقيقيّة للأزمة. ففي الولايات المتّحدة، التي تشكّلت فيها الجذور الأساسيّة للأزمة (انفجار فقّاعة الرهون العقاريّة)، يتوقّعون أن تقلّص المصارف الإقراض إلى قطاعات الأعمال وحتى العائلات، فيما ستزداد صعوبة الحصول على قروض لشراء السيّارات والمنازل. وكلّ ذلك سيكبح نشاط المستهلكين، وبالتالي يولّد ضغوطاً على الشركات. أمّا على الصعيد العالمي، فإنّ تقلّص النشاط الائتماني سيؤدّي إلى انخفاض النشاط الاقتصاد عموماً، وبالتالي انخفاض نسب النموّ وارتفاع نسب البطالة... ربّما دخلت الأزمة في مرحلة هدوء نسبي، ولكن نتائجها الأوخم لا تزال تنتظر التحقّق.




انكماش حتمي

رأى المفوّض الأوروبي للشؤون الاقتصادية خواكين ألمونيا في مؤتمر اقتصادي عقد في مدريد أمس، أنّه من المرجح أنّ الاقتصاد الأميركي سيدخل حالة من الانكماش، وهذا يجب أن «يصبح السيناريو الرئيسي بالنسبة لنا». ويأتي هذا الحديث غداة توقّع صندوق النقد الدولي في تقريره «نظرة على الاقتصاد العالمي» أنّ النمو الاقتصادي الأميركي سيصل إلى نقطة التوقف تقريباً عام 2009 حيث لن تتعدّى نسبته 0.1 في المئة، وهي الأسوأ منذ عام 1991 عندما كانت الولايات المتحدة تخرج من حالة انكماش.