مع ظهور مدى حدّة الأزمة الماليّة العالميّة، تبرز ضرورة جادّة لتبيان من المسؤول عن التدهور الذي حدث في الأسواق. وفي فرنسا حيث تجري «محاسبة» جيروم كيرفيل لـ«مضارباته الخاسرة»، ستطبع مرحلة ما بعد هدوء الأسواق، محاسبة المسؤولين، من المديرين العامّين حتّى الموظّفين العاديّين
باريس ــ بسّام الطيارة
من يذكر جيروم كيرفيل؟ ذلك «الشاب الذهبي» الذي سبّب خسارة ٥ مليارات يورو لمصرفه «SOCIETE GENERALE»؟ بالطبع القضاء يمهل ولا يهمل، لذا فقد صادف في بداية الأسبوع الجاري لقاء بين قاضي التحقيق والموظف المصروف للاستماع إلى شهادته. إلّا أن الأجواء المحيطة بهذا «اللقاء» كانت أجواءً غريبة، إذ إن «ضخامة الأرقام» التي تداولها الإعلام عن خسائر البورصات العالمية جعلت من الخسارة التي تسبّب بها كيرفيل «نقطة في بحر»، دفعت محاميه، إيريك موريتي، للقول للصحافين، الذين تحلّقوا حوله، «٥ مليارات يورو باتت لا شيء، مقارنة بما يحدث».
ويتفق معظم المراقبين على أنّ الأزمة الحاليّة أثبتت أنّ النظام المصرفي ككل مريض، وأن ما كان يقوم به كيرفيل على صعيد شخصي هو «أسلوب مصغّر» لما يقوم به النظام المصرفي القائم على مبدأ «المضاربة والمراهنة» المبنية على «رياضيّات ذهنية واحتمالات» لا تمس الواقع المادي والصناعي، ولا علاقة لها بالقيم الفعلية لما تتداوله الأسواق.
إذاً، فالقضاء يدخل للمرّة الأولى في تفاصيل عمليّات الـ«SWAP» (البيع على المكشوف) وكيفيّة «بناء مواقع افتراضية مكشوفة تغطي مواقع شراء أو بيع افتراضية لزبائن غير موجودين أصلاً» تسمح للمصرف بكسب (أو بخسارة) الملايين إن لم نقل المليارات. وسيسعى القضاء بحسب مقدّمات القضيّة وإحداثيّاتها إلى تبيان مسؤولية العاملين والإدارة في المصرف الفرنسي.
الاستماع إلى شهادة الموظّف «المتّهم» جاء عشيّة اجتماع الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي مع رؤساء البنوك لمناقشة «احتياجاتهم لرسملة مصارفهم»، بعدما رصدت باريس ٣٦٠ مليار يورو لتحفيز قطاعها المصرفي، من خلال ضمان القروض المفترض أن تؤدّي إلى تحريك العجلة الاقتصادية وتجنيب البلاد ركوداً يمكن أن ينعكس في زيادة حدّة الأزمة؛ ورصدت أيضاً مبلغ ٤٠ مليار يورو لضخّها كرؤوس أموال جديدة في المصارف المتعثرة، بهدف إعادة الثقة إلى الأسواق المضطربة.
ساركوزي كان قد ردّد مراراً في المؤتمر الصحافي، الذي أعلن خلاله «إجراءات الجانب الفرنسي» من رزمة الإنقاذ الأوروبيّة التي جرى الاتفاق عليها بعد طول خلاف، وخصوصاً مع الإدارة الألمانيّة، أنّ الدولة الفرنسيّة «لن تترك أي مؤسسة مصرفية عرضة للإفلاس» وذلك اعتماداً على الآليّتين المذكورتين. وأكّد سيّد الإليزيه أنّ الهدف الأوّل هو «إعادة الأموال إلى السوق، وخصوصاً بين المصارف». وفي هذا الصدد يقول البعض إنّ هدف الآلية الأولى هو «إعادة الثقة المفقودة بين المصارف»، إذ تتخوف المصارف القوية من أن تُقرض المصارف المتعثرة «من دون جدوى»، فتذهب هذه القروض هباءً في حال إفلاس المصارف المستدينة.
ويقول الخبراء إن التشديد على هذه الوجهة من المعالجة يفيد أن عدد المصارف «ذات الأوضاع المقلقة» أكثر مما يُعلن، وأن هذه الضمانات توهب في اتجاه تسهيل إعادة الثقة من جهة، مع ضوابط تمنع عمليات «ضمّ بالإكراه»، وهو ما كانت تتخوّف منه بعض المصارف.
أما آليّة التمويل الثانية التي تديرها الدولة مباشرة ووضعت لها ميزانية ٤٠ مليار يورو تحت عنوان «إعادة رسملة»، فهدفها «دخول الدولة في رأس مال» بعض المصارف بهدف «ضبط أوضاعها» من جهة، «وردّ هجمات محتملة لشرائها»، وخصوصاً من جانب مصارف آسيوية.
رد فعل البورصات على الآليتين كان جيّداً، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأوساط السياسيّة، رغم أنّ بعض التسريبات يفيد أن الحزب الاشتراكي يستعدّ للامتناع عن التصويت عندما تُعرض مشاريع قوانين تشريع هذه الوصفات على البرلمان، وفي المقابل، فإنّ اليمين الليبرالي الحاكم، وفي مقدمته حزب الرئيس، يرى ضرورة «التصويت بالإجماع» لإعطاء إشارة إيجابية للأسواق وللمستهلكين.
لا يمنع هذا من أن أسئلة كثيرة لا تزال تنتظر «الخروج من مرحلة الخطر المميت»، عندما يحين وقت تحميل المسؤوليّات لكبار المضاربين، ومسهّلي عملهم عبر قروض غير مؤتمنة سمحت لهم بجناية المليارات من اقتصاد افتراضي، إلى جانب طرح مسؤولية القوانين الليبرالية التي سهّلت الوصول إلى هذا الواقع الأليم، وخصوصاً أنْ لا أحد يتكلم عن مصير صناديق التعويضات التي ربطتها الحكومات المتعاقبة بإنجازات البورصة ومؤشراتها، والتي حتى الآن لم يكشف أحد عن «حقيقة خسائرها» التي تتجاهلها الوسائل الإعلامية ولا يتحدث عنها السياسيون، والتي يقول البعض إن خسائرها تتجاوز «خسارة جيروم كيرفيل البسيطة» بمئات المرّات.


كشف الضباب

في كانون الثاني الماضي، صدم مصرف «SOCIETE GENERALE» العالم المالي، عندما أعلن خسائر فادحة سبّبها إبرام صفقات خاسرة «غير مسموح بها» بقيمة 50 مليار يورو. وبعد ذلك بيومين سلّم الموظّف، جيروم كيرفيل (31 عاماً) نفسه إلى الشرطة، واتّهم بـ«خرق الثقة» وتزوير الملفّات والولوج بطريقة غير قانونيّة إلى المعلومات على كمبيوترات المصرف. ويقول أحد محاميي كيرفيل، برنارد بنعيم، «ننوي كشف الضباب» في المصرف لكي «يتحمّل كل طرف مسؤوليّته» عن الخسارة التي بلغت 5 مليارات يورو.