خلال مرحلة ما قبل انهيار مصرف «LEHMAN BROTHERS»، حذّر المراقبون مراراً من أنّ الأسوأ من أزمة الائتمان لم يأت بعد. وبالفعل فقد ظهر ذلك مع تراجعات حادّة في بورصات العالم أدّت إلى خسائر قياسيّة. أمّا المرحلة الحاليّة، فتفترض بحث الخسائر الحقيقيّة التي ستولّدها الأزمة، وعلى رأسها ارتفاع معدّلات البطالة: 210 ملايين عاطل من العمل عام 2009
حسن شقراني
كان للأزمات الماليّة الضخمة عبر التاريخ ارتدادات على الاقتصادات التي مسّتها. فالانهيار في البورصة يؤدّي حتمياً إلى انعكاسات على معدّلات التشغيل والإنتاج وبالتالي البطالة. والأزمة الحاليّة التي يشهدها العالم، والتي انبثقت (مثلما هي العادة في التاريخ) من مركز الرأسماليّة، الولايات المتّحدة، ستؤدّي إلى نتائج اقتصاديّة مأساويّة أيضاً، قد يختلف المراقبون على توقيتها، ولكّنهم لا يختلفون على حدّتها، وخصوصاً أنّ آثارها بدأت تظهر منذ الآن.
فبحسب الأرقام الأخيرة التي توصّلت إليها «منظّمة العمل الدوليّة»، سترفع الأزمة الماليّة العالميّة عدد العاطلين من العمل حول العالم بواقع 20 مليون عامل خلال العام المقبل. وهو تطوّر حذّر منه رئيس المنظّمة، خوان سومافيا أمس، موضحاً أنّ عدد العاطلين من العمل سيرتفع من 190 مليون شخص في العام الماضي إلى 210 ملايين شخص في نهاية العام المقبل، ويمكن أن يكون الرقم أكبر إذا كان للأزمة تأثير أقسى في الاقتصاد العالمي.
هذه التوقّعات تظهر فيما يزداد اليقين من أنّ نموّ الاقتصاد الكوني سيتقلّص بشكل كبير. فخلال العام الحالي ظهرت بوادر الانكماش في أوروبا والولايات المتّحدة على حدّ سواء. وفي البلدان النامية يتّضح أنّ نسب النموّ الخارقة ستتقلّص أيضاً. فبحسب الأرقام التي نشرتها دائرة الإحصاء المركزي في الصين أمس، سجّل نموّ الناتج المحلّي الإجمالي في البلد الآسيوي، نسبة 9 في المئة خلال الربع الثالث من العام الجاري. وهي الفترة الوحيدة منذ 4 أربع سنوات التي تُسجَّل خلالها نسبة نموّ تقلّ عن 10 في المئة.
وجاء الإعلان عن هذا الرقم بعدما أوضحت البيانات الاقتصاديّة الأميركيّة أنّ حجم الإنشاءات الجديدة للمنازل في أكبر اقتصاد في العالم هبط في أيلول الماضي إلى أدنى مستوياته منذ الركود الذي سيطر على اقتصاد البلاد عام 1991، إثر أزمة القروض والمدّخرات التي انفجرت عام 1987.
إذاً فالتطوّرات السلبيّة اقتصادياً بدأت تظهر ملامحها. وحكومات العالم، في إطار الترويج أمام الرأي العام ودافعي الضرائب، لخطط الإنقاذ المصرفي التي ستكلّف 3.3 مليارات دولار (مبلغ يساوي حجم الناتج المحلّي الإجمالي الألماني) استخدمت حجّة أساسيّة: رغم أنّ المبالغ المطروحة ستُنفق لإنقاذ مصارف ومؤسّسات ماليّة لم يأخذ بعضها الاحتياطات اللازمة لاحتواء أيّ طارئ، فإنّ هذا الإنقاذ ضروري لأنّ انهيار البورصات (أدّى في الولايات المتّحدة وحدها إلى خسائر سنويّة بلغت 8.4 تريليونات دولار أي أكثر من 60 في المئة من الناتج المحلّي الأميركي) سيدفع نحو انهيارات اقتصاديّة متلاحقة، لأنّ فقدان الثقة بين المصارف (ما يعبّر عنه بأزمة الائتمان) سيؤدّي إلى تضاؤل حجم الإقراض للمؤسّسات والمصانع والأفراد، وبالتالي ستنشأ حلقة أزمة اقتصاديّة تعرف بالركود.
وبالعودة إلى أرقام منظّمة العمل الدوليّة. فهي تعتبر صارخة جداً، وخصوصاً إذا ظلّلت بالأرقام التي أضاء عليها التقرير الأخير للمنظّمة، المعنون «عدم المساواة في المداخيل في عصر العولمة الماليّة»، الذي نشر في منتصف الشهر الجاري.
فالتقرير يشير إلى أنّه على الرغم من زيادة التوظيفات بين عامي 1991 و2007 بنسبة 30 في المئة، فإنّ فجوة المداخيل بين الأغنياء والفقراء اتسعت بشكل كبير خلال الفترة نفسها.
وعلى سبيل المثال، بلغت مداخيل المديرين التنفيذيّين في الشركات الـ15 الأكبر في الولايات المتّحدة، 520 مرّة مداخيل الموظّفين العاديّين. ما يمثّل ارتفاعاً حجمه 360 ضعفاً مقارنةً بالمداخيل المسجّلة عام 2003. وهذا النمط سُجّل أيضاً (وإن بمستويات أدنى) في أوستراليا وألمانيا وهونغ كونغ وهولندا وجنوب أفريقيا.
إذاً فالانعكاسات المباشرة للأزمة الماليّة على القطاعات الحقيقيّة من اقتصادات العالم تتبلور بخطورة شيئاً فشيئاً، في ظلّ هذه التفاوتات النوعيّة الخطيرة التي تعتبر من المحصّلات الطبيعيّة للرأسماليّة المعولمة. والمثير هو أنّه فيما للأزمة مصدر محدّد فإنّ انتشارها غير محدّد.
فبعد إغلاق المصنع الصيني «SMART UNION»، الذي دفع نحو فقدان 7 آلاف موظّف عملهم، أعلن صانع الأدوات الكهربائيّة الصيني «BAILINGDA INDUSTRIAL CO» أمس، أنّه سيغلق مصنعه في محافظة شين زين، تاركاً 1500 عامل عاطلين من العمل. وهو ما يعتبر نتيجة مباشرة للأزمة الماليّة القائمة، التي أدّت إلى فقدان 159 ألف أميركي وظائفهم خلال أيلول الماضي.


وظائف لائقة

بسبب أزمة الائتمان انهارت مصارف عديدة في الولايات المتّحدة وسائر العالم الرأسمالي، وأجبرت أخرى على الاندماج للنفاذ، في بيئة يزداد فيها عدم اليقين. ولكن بحسب منظّمة العمل العالميّة، فإنّ هذه الأزمة ستسبب فقدان وظائف ليس فقط في «وول ستريت» وشبيهاتها، بل في القطاعات الاقتصاديّة الأخرى كالبناء والسياحة والعقارات وصناعة السيّارات. وفي هذا الصدد يقول مدير المنظّمة، خوان سومافيا، «نحتاج إلى خطّة إنقاذ اقتصادي للعائلات العاملة، وبالتالي، للاقتصاد الحقيقي، مع بلورة قوانين وسياسات تؤدّي إلى تأمين وظائف لائقة».