كثيراً ما شُغِل العالم بمتابعة الأزمات السياسيّة، التي توقدها الخلافات على المياه، من خلاف المكسيك والولايات المتحدة على نهر كولورادو، وسوريا وتركيا على مياه الفرات، وتشيلي وبوليفيا على قضية المنافذ البحرية، وتمسك الصين بهضبة التيبت. ولكن ماذا لو تحوّل الماء إلى مدخل لعلاقات دافئة بين الدول؟
خضر سلامة
المكان: أفريقيا. وتحديداً دولة ليزوتو، الواقعة داخل خريطة دولة جنوب أفريقيا، التي تقدم سنوياً أسوأ أرقام التنمية البشرية والاقتصادية. يسكنها مليونا مواطن هم من الأفقر في العالم. يعاني واحد من كل أربع مواطنين بينهم فيروس فقدان المناعة المكتسبة (سيدا)، وسط معدل أعمار لا يتجاوز 42 عاماً.
هذه الدولة كانت تعتمد منذ نشأتها على ما يرسله أبناؤها العاملون في المناجم الجنوب أفريقية لسد شيء من العجز الهائل في الميزان التجاري، حتى عام 1993، حين بدأت ليزوتو بتصدير... الماء!
الزبون هو جمهورية جنوب أفريقيا، وعاصمتها الاقتصادية والمدينة الأكبر جوهانسبورغ (8 ملايين نسمة) التي تعاني من عشرات الأعوام مشكلة الموارد المائية.
وعلى بعد 300 كيلومتر من الدولة الأفريقيّة، تعج جبال ليزوتو بثروة مائية ضخمة. وبعد توفير مليارات الدولارات من معاهد دولية كبيرة، بدأ مشروع النقل المائي من ليزوتو إلى جنوب أفريقيا عام 1986 وانتهى العمل به عام 2004. بعد إنشاء سدين عملاقين و80 كيلومتراً من الأنابيب: إنه أحد أكبر المشاريع المائية في القارة الأفريقية.
المشروع لا يقتصر على ما يوفر من مردود مالي لليزوتو، المقدر حسب البنك الأوروبي للاستثمار بـ33 مليون يورو سنوياً، بل يوفر للدولة النامية اكتفاءً ذاتياً من التيار الكهربائي أيضاً. وفي المقابل، تحصل جنوب أفريقيا على 29 متراً مكعباً كل ثانية من مياه الهضاب في ليزوتو، وهو ما يعادل حجم نهرٍ محلي. وبحسب الخطة الأولية للمشروع، كان يفترض أن يكون المردود ثلاثة أضعاف المردود الحالي، إلا أن المهندسين لا يزالون يدرسون قدرة البنى التحتية على تحمل ضغط استهلاك زائد.
ومن جهة أخرى، لم يمرّ هذا المشروع من دون أثمان باهظة، كقضية الفساد في المعاملات المالية للبناء، التي كشفت عام 1994 والتي أجبرت البنك الدولي على التدخل لفرض رقابة على شركات عالمية عاملة في السدّين وإنشاء الأنابيب.
كذلك، فإن المشروع حرم الآلاف من المزارعين الفقراء أراضيهم الزراعية، وحرية الوصول إلى المنابع المائية، ما سبب هجرة واسعة بين المناطق. مآسٍ وثّقتها منظمات حكومية كثيرة مثل «INTERNATIONAL RIVERS»، التي أعدّت ملفاً خاصاً عن معاناة المزارعين في ليزوتو.
والزراعة هي القطاع الاقتصادي الأهمّ في البلد الفقير. وتمثّل ربع الصادرات، ويعمل فيها 80 في المئة من اليد العاملة، غير أنها لا تسهم إلا بـ20 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي. وفي الوقع فإنّ 10,9 في المئة فقط من الأراضي في ليزوتو قابلة للاستغلال الزراعي. وتصطدم مشاريع تأهيل الأراضي الزراعية بالجفاف المتزايد!
ومع ذلك، يبقى المشروع دلالة مهمة على قدرة الدول على جعل الماء وسيلة تعاون لا تقاتل ونزاع. نظرية دعت إلى تبنيها منظّمة الـ«أونيسكو» في خطة سمّيت «PCCP» تهدف إلى إيجاد أساس لتعاون الدول في ما بينها على استثمار مصادرها المائية، وقد أطلقتها المنظمة عام 2000 من أجل تقديم الماء على أنه عنصر سلام لا حرب.
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أنه، بحسب الجغرافي الأميركي، مدير مركز «أرشيف النزاعات المائية»، آهارون وولف، فإن الحرب الأقسى والوحيدة التي كان طلب الماء سببها المباشر شهدتها بلاد الرافدين منذ 4500 عام. إلا أن الخمسين عاماً الأخيرة، شهدت وحدها 37 حادثاً سياسياً ومأزقاً دولياً جدياً بسبب الخلاف على الماء، بينها ثلاثون حادثة كانت إسرائيل طرفاً فيها!
وولف يلفت في حديث للمجلة الصادرة عن الـ«أونيسكو» إلى حديث الرئيس المصري الراحل أنور السادات عام 1979 عن أنّ مياه النيل هي السبب الوحيد الذي يمكن أن يدفع بمصر للدخول في حرب جديدة، وإلى تصريح الملك الأردني الراحل حسين، عام 1990، بالعبارة نفسها، في ما يخص مياه نهر الأردن، إلى جانب أزمات سوريا وإسرائيل المتعلقة بمياه اليرموك ونهر الأردن أيضاً.
ويقول وولف إنّه إلى جانب كون الماء سبباً في الخلافات السياسية، فهو استعمل أيضاً في الحروب العسكرية، وكان سلاحاً فعالاً. ويختم بالتذكير أنّه في مقابل هذه الأزمات فإن العالم يشهد أيضاً بناء 157 مشروع تعاون مائي بين دول تشترك في مصادر مائية. ورغم حساسية المادة المعالجة، وهي الأساس لنشوء الحياة، فإن التفاؤل يطغى على عمل الأمم المتحدة، «تفاؤل بمشروع يقسم الثروات المائية بطريقة تشبع بموجبها حاجة الإنسان، لا حاجات السياسة والمصالح الاقتصادية وجشع الشركات».


تطوير عبر التاريخ

إن اختراع مضخة المياه في إنكلتر في منتصف القرن السادس عشر، هو علامة فارقة في تاريخ تطور استخدام المادة الحيوية، لما نتج من بعدها من ابتكارات تتعلّق بنظم الري. وأُنجز بناء أوّل معمل لتوزيع المياه عبر الضخ في لندن عام 1562.
وخلال النصف الثاني من القرن الماضي، برزت أهمية تحلية مياه البحار لتوفير المياه الحلوة إلى المناطق الحافة والصحراوية، مثل الشرق الأوسط. وطوّرت طرق كثيرة لتلك العملية، إلّا أنّها تبقى أكثر تكلفة من معالجة المياه الحلوة أصلاً، وتصفيتها للاستعمال.