شهدت العلاقات الخليجيّة ـــ الأميركيّة أخيراً شيئاً من الجفاء. فالأميركيون يودون أن تستثمر الدول الخليجية الكثير من فائض ثرواتها في أسواقهم المالية، وهو ما أقدمت عليه بعض بيوت المال الخليجية حتى تمّوز بشغف. إلّا أنّها سرعان ما لذعت أصابعها بنيران الحريق المالي
نيويورك ـــ نزار عبود
بعد فترة من «الوئام المالي» المتماهي مع الوئام السياسي، بدأت بلدان الخليج العربي تعدّ حتى المئة قبل أن تتخذ أية قرارات تتعلّق بمدّ الأسواق الماليّة الأميركيّة بفائض «البترودولار» القياسي الذي تحقّقه. وهذا العزوف لم يعجب رجال السياسة في الولايات المتحدة الذين لا يجدون ملاذاً لحل أزمتهم سوى تريليونات الدولارات التي تجمعت لدى تلك الدول النفطية ذات الكثافة السكانيّة الضئيلة.
مصادر دبلوماسية خليجيّة في نيويورك تحدّثت لـ«الأخبار»، فأبدت قلقاً شديداً من الضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة حالياً لامتصاص السيولة الماليّة المتاحة في مصارفها. وقالت إنّ الولايات المتحدة بعثت برسائل شديدة اللهجة إلى حلفائها الخليجيين تطالبهم بـ«المساهمة الجادة» في خطة الإنقاذ المالي التي وضعتها إدارة الرئيس جورج بوش لمنع الانهيار الكامل للأسواق الماليّة، وخصوصاً بعدما عارضت هيئة الاستثمار القطريّة مشاريع لاستثمار جزء من أصولها في السوق الأميركية في الوقت الراهن، وفضّلت الاستثمار في الأسواق الآسيويّة.
وكانت دول الخليج قد استثمرت بشكل فردي وجماعي في الأشهر الأخيرة عشرات مليارات الدولارات في أسهم مصارف وعقارات، في الوقت الذي كانت فيه قيمة تلك الاستثمارات تمرّ بمرحلة انحداريّة متواصلة، ولم يعرف أحد أسباب تلك القرارات التي شملت مصارف كانت مهدّدة بالإفلاس مثل «MERRILL LYNCH» و«LEHMAN BROTHERS» و«GOLMAN SACHS».
وعادة تكون سرعة الإفلاس تفوق أيّ تصور، ومثالاً على ذلك، فإنّ القيمة السوقيّة للمصرف الثاني، انخفضت خلال أسبوع واحد من 15 مليار دولار إلى الصفر، وكان الجميع يتوقّع أن تستمر موجة الهبوط الاقتصادي ربّما لتصل إلى كساد على غرار ما جرى في أواخر عام 1929 وامتد لسنوات لاحقة.

خسائر خليجيّة

وتعرّضت الصناديق السياديّة الخليجيّة لبعض الهزات في محافظها أخيراً، وخسرت هيئة الاستثمار الكويتيّة 270 مليون دولار استثمرتها في مجموعة «CITIGRPOUP» الأميركيّة. وهو مبلغ زهيد مقارنة بالخمسة مليارات دولار التي استثمرتها في كل من «BANK OF AMERICA» و«MERRILL LYNCH» والتي لم تعلن عن حجم الخسائر فيهما بعد... ولكن تلك الهيئة تمتلك 200 مليار دولار، فيما يقدر الفائض النقدي لإمارة أبو ظبي بحوالى 800 مليار دولار. أمّا السعودية فيقدّر فائضها المالي بأكثر من تريليون دولار، وكلها مبالغ باتت محط أنظار عواصم متعطشة لرأس المال، الذي أضحى شحيحاً جداً.
والولايات المتحدة، التي تنوي ضخ 700 مليار دولار لإنقاذ نظامها المالي من الأصول الماليّة «المسمّمة»، ستحتاج في العام المقبل إلى تغطية عجز يقدر بـ1.5 تريليون دولار، وفي ظل عزوف الكثير من الدول وكبار المستثمرين عن ضخ المزيد من الأموال في السوق الأميركية، التي لم تعد جذابة استثمارياً، يكون تحويل أيّ استثمار جديد ضرباً من المغامرة العالية المخاطر، ذلك أن المديونيّة الأميركيّة المتفاقمة التي تقترب من 12 تريليون دولار، فضلاً عن «الركود الطويل المؤلم» الذي تحدث عنه الرئيس جورج بوش، يجعلان أيّ استثمار بالدولار الأميركي بمثابة «مغامرة متهوّرة»، بحسب رأي كبار المحللين الماليين في الولايات المتحدة.
وعليه، يشعر الخليجيّون بالحرج من الإلحاح الأميركي الذي يجري حالياً على يد سماسرة محليّين وبعض البيوت المالية المملوكة من شيوخ وأمراء بارزين. وفي هذا السياق، يقول دبلوماسي خليجي لـ«الأخبار» إنّ «التعثّر الشديد الذي تشهده بورصات الخليج ليس له ما يبرره من الناحية المالية، إلا إذا كان هناك أمور تبقى طي الكتمان، فالسيولة عالية في المنطقة التي لا تعتمد عادة على الاقتراض كما هي الحال في الأسواق الغربية الناضجة».
ويضيف الدبلوماسي، «صحيح أن هناك مضاربات تحصل بتمويل مصرفي، إلا أن حجم المدخرات في المصارف عالية جداً، والاقتصاد يعوم على فائض هائل من البترودولارات، وهذا يسهم إلى حدّ كبير في التضخم الحاصل في المنطقة. وعلى عكس الاقتصادات الغربية التي تعاني مديونية فردية عالية، بقيت المديونية الشخصية الخليجية ضئيلة. وليس هناك أيّ إشارات تدلّ على خطر وقوع الركود الاقتصادي في المنطقة، وخصوصاً أنّ المستثمرين الشخصيّين لا يثقون بوضع أموالهم في الخارج، إما خوفاً من تجميدها بحجة أو بأخرى، وإما خوفاً من ذوبانها في معمعة الانهيارات الحاصلة والمحتمل وقوعها في المستقبل القريب».

نهاية التحفّظات

أمّا السبب الأوّل في تدهور الأسواق الماليّة الخليجيّة، فيعود بحسب الدبلوماسي، إلى تحويلات مصرفية تحصل بشكل منظم إلى الأسواق الغربية، وهي تحويلات ناهزت قيمتها الـ100 مليار دولار خلال أشهر قليلة، معظمها حصل على يد أولئك السماسرة. علماً بأن الأميركيين كانوا حتى أشهر قليلة ماضية يرفضون السماح لبيوت الاستثمار الخليجيّة بشراء مرافق صناعيّة ومصارف وعقارات بحجة أن الخليجيين يختلفون عن الأميركيين من حيث المعتقد والثقافة.
وإذا كان الأميركيّون قد عارضوا في السابق تملّك اليابانيين والكوريّين والتايوانيّين لمصارفهم وعقاراتهم، فكيف سيرضون بتملّك الخليجيين الذين يرون أن لديهم «أجندتهم» الخاصة كعرب قد يؤثرون على مراكز القرار! لذا رفض الكونغرس الأميركي في عام 2005 مثلاً صفقة شراء مرافئ «بي أند أو نورث أميركا» من جانب شركة «موانئ دبي» رغم المبلغ الضخم الذي عرضته، وفرض عليها بيعها مجدداً لمشترين أميركيين بحجة الخوف على الأمن فيها.

فشل النموذج الأنغلو ـــ سكسوني

عرفت منطقة الخليج خلال السنوات العشر الأخيرة مشاريع عديدة لبناء مراكز مالية على النمط الرأسمالي الأنغلو ـــ سكسوني، في كل من دبي والبحرين وقطر وغيرها، ونظمت تلك المراكز بناءً على نموذجي أسواق نيويورك ولندن، وغالباً ما جاء خبراء السوق من المركزين الغربيين نفسيهما لتقديم النصائح. واليوم تتعالى الصرخات بأنّ النموذج الأنغلو ـــ سكسوني برهن عن فشل ذريع في الأزمة المالية الراهنة بسبب قلة الرقابة عليه، وهذا لا يقتصر على النظم المالية وحسب، بل ينسحب أيضاً على هيكليّة الاقتصاد.
فالمبدأ يقوم أساساً على نظرية أن أداء النظام الرأسمالي يسير على خير ما يرام إذا ما ترك يعمل حسب قواعد السوق وفق العرض والطلب. لكن بعد تدخل المصرف المركزي البريطاني لمساعدة مصرف «NORTHERN ROCK» العام الماضي، ومساعدة الاحتياطي الفدرالي الأميركي مصرف «BEAR STERNS» في الربيع الماضي، وما تلى ذلك من انفراط عقد مؤسّسات مالية عملاقة وانهيار في سوق العقار وتدخل الحكومة الأميركيّة لإنقاذ الشركات المتعثرة، كل ذلك طرح أسئلة جدية في شأن جدوى النظم القائمة. واليوم تجد دول تخلّفت عن ركب الخصخصة، مثل فرنسا، نفسها في حال مراجعة متعلّقة بخططها للمستقبل.
وفي سياق المقارنة التاريخيّة، يذكّر المحلّلون بما جرى في الأزمة الماليّة الآسيويّة التي وقعت عام 1997 وامتدت إلى روسيا في عام 1998. عندها كانت جميع وصفات صندوق النقد الدولي تنصح بالتخلّي عن دعم الشركات، وتركها تسقط ليشتريها المستثمرون الأجانب بأبخس الأثمان.
وفي منطقة الخليج تحديداً برهنت أنماط توظيف الأموال الإسلاميّة أنها أكثر أماناً من مثيلاتها الغربيّة في أزمتين كبيرتين: الأولى عام 2001 حين حدث الانهيار الكبير في البورصات، والثانية خلال الأزمة الحالية. ذلك أن تلك الرساميل تخضع لنظم استثمارية مكبِّلة تمنعها من ركوب مخاطر عالية أسوة بما تفعله المؤسّسات الماليّة والمصارف الاستثماريّة التقليدية.
وإزاء كل هذا، يتخوف الدبلوماسي الخليجي من أن تسفر الضغوط المستمرّة على حكومات المنطقة عن إذعان، وإنفاق مئات مليارات الدولارات الإضافية في شراء شركات أميركية وأوروبية لا تخضع لإدارة مشتريها ولا تشملها مظلّة الحماية الماليّة الحكومية، ويذكّر بـ«مصيبة» بنك «الاعتماد والتجارة»، التي وقعت في بداية العقد الأخير من القرن الماضي. فحينها خسر الحاكم الراحل لولاية أبو ظبي، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، زهاء 10 مليارات دولار، واضطر لدفع مبلغ مماثل لإيقاف ملاحقته قضائياً بعد فضيحة المصرف بارتكاب شتى أنواع المخالفات في ظلّ «رقابة» المصرف المركزي البريطاني، فمصرف «الاعتماد والتجارة» كان بريطانياً رغم أن معظم رأسماله كان إماراتياً.
إذاً، يشعر الخليجيّون بأنّ الضغط الأميركي محرج للغاية، نظراً لأنّ الشرق الأوسط بات قاعدة عسكريّة أميركيّة ـــ بريطانيّة ـــ فرنسية كبرى، ولا يسعهم، والحال هذه، التهرّب طويلاً من الإلحاح الأميركي. وإذا مضى هؤلاء في تمويل المصارف والشركات الأميركية، فإن مشاريع المدن الخليجية العملاقة، التي تُبنى، مثل مدينة الملك عبد الله في السعوديّة، تصبح مهدّدة بالترهّل وهي لا تزال في ريعان شبابها.


جهد عالمي منسّق

شدّد مسؤولون خليجيّون في حديث وجّهوه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة على ضرورة بذل جهد عالمي منسّق للحيلولة دون وقوع الاقتصاد العالمي في ركود، ولا بدّ لهذا الجهد من أنّ يتضمّن إجراءات لمعالجة نقاط الضعف وإعادة الاستقرار إلى النظام المالي. وقال وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل إنّه ليس هناك منطقة في العالم لم تتأثّر بمضاعفات أزمة الائتمان الأميركية، وأضاف أنّ أكثر ما يخشاه هو قرب حدوث ركود عالمي إذا أدّت هذه الأزمة إلى اتخاذ الدول المتقدمة إجراءات قد تحدّ من حريّة التجارة الدوليّة وخفض تدفق الاستثمارات.