خمدت نيران المدافع في جورجيا منذ مدة، لكن ألسنتها يبدو أنها امتدّت إلى أكثر من بقعة، مهدّدة بتأجيج نزاعات عسكرية (أفغانستان نموذجاً) وتسخين جبهات (أوكرانيا وبولندا). لكن أهم تداعياتها يبدو أنها ستطال منطقة الشرق الأوسط، حيث تظهر بوضوح ملامح تغيير وشيك في موازين القوى يهدد «بكسر التوازن» الاستراتيجي والعسكري، مقوّماته اندفاع روسي يستعيد قوانين الحرب الباردة، كانت سوريا أول من تلقّفه.بل أكثر من ذلك. بدا واضحاً، من خلال تسارع الأحداث يوم أمس، أن موسكو حسمت خيارها باتجاه مواجهة شاملة مع واشنطن، مستغلّة في ذلك حال التقهقر الأميركي في أكثر من مكان، وقرب انتهاء ولاية الإدارة الأميركية الحالية وما تستتبعه من ارتباك يرافق عملية تبادل السلطة: وقف جميع الاتصالات مع حلف «الأطلسي» والتلويح بتأجيج الاضطرابات في أفغانستان وبدء الإعداد لإقامة درع صاروخية مع روسيا البيضاء مضادة للدرع الأميركية المنوي إقامتها مع بولندا وتشيكيا.
لكن الأبرز من بين الخطوات الروسية التصعيدية جاء في خلال القمة الروسية ـــــ السورية في سوتشي أمس: إعلان موسكو موافقتها على تزويد دمشق أنظمة دفاع صاروخية ومعدات عسكرية أخرى متطورة، في ظل تسريبات عن عودة مرتقبة للإسطول الروسي إلى ميناء طرطوس الموجود «في منطقة حساسة للغاية». إعلان صحيح أنه صدر مخفّفاً في صيغته الرسمية وتلته تطمينات روسية إلى تل أبيب تفيد بعدم وجود رغبة بنشر صواريخ في سوريا تحت عنوان «لماذا علينا أن ننشر صواريخنا هنا؟ ضد من؟ فلا يوجد لنا أعداء في المنطقة». لكنه يشكل بلا شك صفعة «انتقامية» لإسرائيل على مساعدتها لجورجيا، لم يخفّف من وطأتها لا اعتراف الدولة العبرية بـ«خطئها»، ولا إعلانها وقف كل أشكال التعاون العسكري مع تبليسي.
وهو إعلان جاء مصحوباً بدعوة مفتوحة من الأسد إلى قادة موسكو لتكون شريكاً فاعلاً في كل ملفات المنطقة، وفي مقدّمها المفاوضات غير المباشرة التي تخوضها دمشق مع تل أبيب والأزمة النووية الإيرانية وعملية السلام والعراق، وذلك غداة تأكيده استعداده فتح أراضي بلاده لنشر صواريخ «اسكندر» الروسية، في خطوة وصفها الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز بأنها «خطر على العالم بأجمعه».
تطورات قابلتها واشنطن بحال من الامتعاض و«الأسف»، مصحوبة بزيارة مفاجئة لوزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس إلى بغداد، حيث أعلنت قرب التوصل إلى اتفاق بشأن وضع قوات الاحتلال في بلاد الرافدين، من المقرر أن يُعرض اليوم على «المجلس السياسي للأمن الوطني» العراقي.
نيران المدافع خمدت في القوقاز. على الأقل مؤقتاً. لكن دخانها يبدو أنه يُعيد رسم الخريطة السياسية للعالم والمنطقة. غيوم سوداء داكنة تلوح في الأفق. مركز أرصاد البيت الأبيض في حال تأهب، وكذلك نظراؤه في أكثر من عاصمة. حراكها لن يبقى في السماء. أمطارها ستتساقط على أوراق التصويت في نيويورك وبروكسل، وعلى صناديق الاقتراع في الولايات المتحدة. وهي ستُغرق ساحات المواجهة، الدبلوماسية والعسكرية، من تل أبيب حتى طهران.