ينشغل المراقبون للوضع الروسي بتقييم انعكاسات «انتصار» موسكو في جورجيا على الوضع العام لعلاقات روسيا بجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، التي تُعدّ المدى الاستراتيجي الأهم لها في العالم. كازاخستان تمثّل نموذجاً لجمهوريّة سوفياتية سابقة تحتضن مصالح موسكو بقوّة
خضر سلامة
باستثناء أوكرانيا ودول البلطيق، كانت جمهوريات الاتحاد السوفياتي الباقية أقل ترحيباً من جورجيا بالاستثمارات الغربية والانفتاح على السوق العالميّة، وهذا ما كان واضحاً في الحذر الذي تعاملت به الأنظمة الموجودة مع الأزمة الأخيرة على خط تبليسي ـــ موسكو... كازاخستان التزمت الصمت والحياد وتجنّب اعتماد المرافئ الجورجية لتصدير إنتاجها النفطي.
ورغم أن حجم الاستثمارات الاقتصادية الغربية في كازاخستان يبلغ 17 مليار دولار (تقديرات عام 2007)، إلّا أنّ سياستها الداخلية تعتمد دوماً فرض الرقابة على حدود هذه الاستثمارات وحصرها في قطاعات معيّنة وبعيدة من تحوّلها إلى «نفوذٍ مؤثر». من جهة أخرى، يشهد النفوذ الروسي الاقتصادي تنامياً في كازاخستان منذ وصول الرئيس فلاديمير بوتين إلى الكرملين في عام 2000.
فالأخير استفاد من عوامل عديدة، أهمها سيطرة الرئيس نور سلطان نازرباييف على الحكم منذ عام 1990، واستمرار طيف نظريّة التكامل الأوراسي التي طرحها خلال تسعينيّات القرن الماضي. وإضافة إلى وجود أقلية كبيرة من الإثنية الروسية في كازاخستان (30 في المئة من السكان)، فإن الحدود البرية بين روسيا وكازاخستان هي الأكبر في العالم... عوامل سمحت لروسيا، مع نموّ طموحها السياسي، بالتطلع إلى جارتها على أنّها العمق الأهم لها في المنطقة.
كازاخستان تمتلك ثروات طبيعية هائلة، ويُقدّر احتياطيها النفطي بـ17 مليار برميل، يُستخرج منه 50 مليون طن سنوياً. وبحسب مخططات الحكومة، سيساوي حجم النفط الخام المستخرج 3 أضعاف مستواه الحالي مع حلول عام 2015، في ظلّ إحكام سيطرة شركة الطاقة المملوكة من الدولة، «كازموناي غاز»، في استثمار الحقول.
أما عن العلاقة مع روسيا، فإن نفوذ موسكو في الجمهوريّة السوفياتيّة السابقة لم يتوقف عن النمو. وتتحكّم الشركة الروسيّة العملاقة، «غازبروم»، بمعظم إنتاج كازاخستان المستقبلي من الغاز الطبيعي، عبر ارتباطه بمنشأة مشتركة بين موسكو والآستانة في أورنبرغ، لتكرير الغاز وتصديره.
والشركات الروسية تنتشر في كامل الجسد الاقتصادي الكازاخي، مسيطرة على إنتاج اليورانيوم والذهب. والاتصالات الخلوية. وبشكل عام، يصل حجم الاستثمارات الروسية في كازاخستان إلى 3 مليارات دولار. وتعمل في الأراضي الكازاخية حوالى 3 آلاف مؤسسة يشارك فيها رأس المال الروسي. ما أنتج عام 2007 تبادلاً تجارياً بين الدولتين فاق الـ16 مليار دولار، بزيادة 30 في المئة مقارنة بعام 2006. ويُتوقع أن يرتفع هذا الرقم في ظلّ التحوّلات السياسيّة المتصاعدة لمصلحة الروس، وارتفاع سعر برميل النفط الذي يؤمّن سلطة مالية مهمة لموسكو في محيطها.
التبادل التجاري بين الجمهوريتين يمثّل وحده نسبة 3 في المئة من مجمل التجارة الروسية الخارجية... وأبعد من ذلك، فإنّ الصناعات الفضائيّة والعسكريّة والتكنولوجيّة الروسيّة الراقية، تنشأ في مساحات واسعة في كازاخستان، وتؤمّن المجال الحيوي للتجارب.
هذا الوجود التجاري الهائل لروسيا يمثّل أهم دوافع النمو الاقتصادي الكازاخي، ويُعدّ من أهم المؤشرات العالمية (10 في المئة سنوياً)، نموٌ يعزوه الاقتصادي الروسي، ديميتريو كوسيرييف، إلى استراتيجية جمعت بين النموذج الآسيوي (ماليزيا، الصين، سنغافورة) والإصلاح الناجح نظرياً الذي قامت به السياسة السوفياتية في الدويلات الخاضعة لسلطتها، ويشير إلى أن كازاخستان اعتمدت الخيار الذي تبنّته الصين، أي خيار تنمية الثروة البشرية، كرفع الأجور وتطوير المناهج الدراسية والعلمية وتطوير الكفاءات وفرص العمل، قبل القيام بأي إصلاح سياسي، ما حفّز القفزة المميزة عن باقي دول المنطقة.
... النخبة الروسية كثيراً ما ذهبت باتجاه المطالبة بتفهّم أهمية «الطريق الآسيوي» للاقتصاد الوطني في خضمّ اعتراضها على «الارتماء في حضن الغرب»، عبر استعانتها بالمثال الكازاخي. وهذا ما جعل بوتين، وخلفه ديميتري ميدفديف، واعيين جيداً لدور التعاون الروسي ـــ الكازاخي في القيامة الاقتصادية لروسيا، وفي تعبيد طرق مواصلاتها الجيوسياسية مع الأقطاب المهمة الجارة، كالصين والهند وباكستان وإيران. وعيٌ أمّن تدعيماً لاتفاق «الصداقة الخالدة» بين الآستانة وموسكو، الذي يضمن تحريراً جمركياً وتعاوناً كاملاً أمنياً وسياسياً بين الدولتين، كما رُسمت خطة لبدء مناورات عسكرية سنوية كبيرة تبدأ منذ عام 2009 وتستمر حتى 2011 بين الدولتين، تمهد لإرساء تعاون عسكري مبشّر بحلف أوسع لمناطق نفوذ روسيا في «إقليمها».


المركز الأول

بحسب تقديرات عام 2001، احتلت روسيا المركز الأوّل في ترتيب الشركاء التجاريّين لكازاخستان، فهي استقبلت 20.1 في المئة من مجمل الصادرات الكازاخية. ويحتلّ النفط المركز الأول في قائمة صادرات كازاخستان، حيث تبلغ نسبته 58 في المئة من إجمالي الصادرات. وتبلغ نسبة الصادرات من المعادن 24 في المئة، ومن المواد الكيميائيّة 5 في المئة. وتبلغ نسبة صادرات الدولة من الآلات والمعدات 3 في المئة، والنسبة الباقية تشغلها صادرات الحبوب والصوف واللحوم والفحم بحسب تقرير الإدارة المركزية للاتفاقات الثنائية والمتعددة الأطراف في القاهرة.