يراهن النظام الكوبي على حركيّة اقتصاديّة من أجل لجم التدهور الحاصل في الخدمات الاجتماعية، التي تبقى أفضل وأعدل من تلك القائمة في قسم كبير من دول العالم. فما هي التعديلات والإجراءات التي اتّخذها راوول كاسترو وفريقه الاقتصادي خلال مئة يوم بعد أداء القسم؟
بول الأشقر

في خطاب القسم في 24 شباط الماضي، وعد الرئيس الكوبي راوول كاسترو بـ«العمل من أجل تقليص حجم جهاز الدولة وتفعيله... ومن أجل رفع الممنوعات، بدءاً بالقضايا الصغيرة». يمكن القول إنه بدأ يفي بما وعد به، وبوتيرة أسرع مما كان متوقعاً. إذ لا تمر بضعة أسابيع إلّا ويؤخذ قرار في هذا الاتجاه.
ففي 13 آذار الماضي، أجيز شراء عدد من الآلات التي كانت قبل ذلك غير متوافرة في السوق، مثل الـ«مايكروويف» أو الدرّاجات النارية أو الكمبيوترات،وفي نهاية الشهر نفسه، سمح للمقيمين بالنزول في الفنادق والمجمّعات المخصّصة للسيّاح.
إجازة استعمال الهواتف الخلوية أقرّت في 14 نيسان، وهو الشهر نفسه الذي شهد إصدار قانون جديد بشأن أبنية السكن يسهّل المعاملات ويقلّص مهل التملّك. ويُقدّر أن يستفيد من هذه الخطوة بالأولوية العسكر والموظفون والأطباء والأساتذة وعمّال قصب السكر، فيما مسألة السكن خانقة في كوبا، حيث يقدر النقص بمئات آلاف الشقق. وأيضاً في نيسان، رُفعت زيادات التقاعد بنسبة 25 في المئة، المسألة التي تهمّ مليوني مواطن.
والأهمّ من كل ما سبق ربّما، هو الورشة القائمة في القطاع الزراعي، حيث تُسلّم أراض إضافية غير مشغولة للفلاحين، إضافة إلى اعتماد مبدأ لامركزية القرارات ونقل بتّ الأمور (وبينها التسليف) إلى 169 أمانة زراعيّة في جميع مناطق البلد. هذا التغيير هو جوهري، يتابع ويعمّق ما كان بدأ قبل سنوات نتيجة انهيار الاتحاد السوفياتي، من خلال فتح المجال أمام صغار المنتجين ورفع أسعار المنتجات الزراعية. كما يتميّز هذا التغيير بأهميّة خاصّة اليوم، في ظلّ محاولات تقليص فاتورة استيراد المواد الغذائية التي تتخطى 1.5 مليار دولار سنوياً، وهو القرار الرسمي الأوّل المشجّع للمبادرة الفردية كحل بنيوي للزراعة، وليس فقط لمعالجة حاجة طارئة في بلد يُقدّر أن نصف أراضيه الزراعية غير مستغلة، أو أن إنتاجيتها متدنية جداً. ويبقى السؤال: هل يصل هذا النوع من القرارات إلى المدينة وكيف؟
من الممكن رسم صورة موازية عما حصل خلال آخر 100 يوم على أصعدة أخرى، مثل السياسي أو الإعلامي أو الثقافي. إلا أن المستوى الاقتصادي يبقى الأجدى، وفيه تتقاطع حاجات الناس العاديين مع منحى التغييرات التي حسم النظام القيام بها.
وبعد التدابير التي فرضتها «الحاجة والممنوعات» التي أوجدها فيديل كاسترو دفاعاً عن «المساواة»، يبدو أن شعار المرحلة الحاليّة بالنسبة لراوول، ومعه المسؤول عن الملف الاقتصادي، كارلوس لاجي، صار معالجة التناقض بين «الحاجة» و«المبدأ» من خلال «تغيير ما يجب تغييره».
من الأكيد أن النموذج الصيني مصدر إلهام للتغييرات الكوبية. ولكن موقع الجزيرة الجغرافي وطبيعة علاقاتها بالولايات المتحدة، إضافة إلى الفارق بين العقليّة الكوبيّة والعقليّة الآسيوية، تجعل هذه المقارنات محدودة المغزى. لا يختلف اثنان بأن التدابير الجديدة شرعنت الفوارق الاجتماعيّة الموجودة أصلاً، لا بل وسّعت مجالها. ورغم ذلك، يرتاح إليها الناس. لماذا؟
الكوبيّون يأملون الإفادة عاجلاً أم آجلاً من بعضهم، وأيضاً لأنّ «العملة المزدوجة» (وإن تنسف على الأمد الوسطي نظام الأجور المترهل) هي آنياً تسنده وتعوّمه. فالكوبيون يتلقّون أجراً يساوي 17 دولاراً كحد أدنى، إلى جانب حاجاتهم الغذائية وحقوقهم في التربية والصحة والتقاعد. ويتضاعف هذا الأجر مرتين أو ثلاثاً في بعض المهن، كأساتذة الجامعات أو الأطباء. ومن خارج سلّم الأجور الرسمي، يعطي «نظام العملة المزدوجة» تفوقاً لكل من له علاقة بالخارج، أي العاملين في القطاع السياحي الذين قد يحصلون على مداخيل تصل إلى 200 دولار. وأيضاً لممثلي الشركات الأجنبية في الجزيرة، وكل الذين يتلقون تحويلات من ذويهم المهاجرين. وهنا بيت القصيد: لا يمكن إلغاء نظام العملة المزدوجة بقرار. كل ما يمكن هو تقليص الهوّة من خلال رفع الإنتاجية ونقل التكنولوجيا وتأمين شبكات التسليف. من هنا، تبرز أهمية التقارب مع بلد مثل البرازيل، إحدى الدول القليلة في القارة، القادرة على توفير المتطلّبات الثلاثة.
وفي هذا السياق، وفي محاولة لرفع الإنتاجية، يبرز قرار تعميم، لإنشاء نظام أجور جديد في قطاعات إنتاج السلع أو الخدمات، قائم على تحرير السقوف والتخلي عن «المساواتية» لمصلحة مكافأة المتميزين. ولا شك في أن هذا «التحديث» سيطرح للبحث، في مرحلة لاحقة، أشكالاً جديدة لانتظام نقابي مستقل عن الدولة.


تراجع الصناعة والزراعة

عاشت كوبا خلال العقدين الأخيرين تحت «نظام العملة المزدوجة»، الذي فرضته «المرحلة الخاصة» إثر انهيار الاتحاد السوفياتي، والتي بدأت كمزيج من «الانفتاح» ومن التقنين لتخطّي الواقع الجديد.
إلّا أن هذه المرحلة أدخلت تغييرات جوهريّة في بنية الاقتصاد الكوبي. فقد ارتفعت حصّة الخدمات من 57 في المئة إلى 77 في المئة من الاقتصاد الوطني، فيما تراجعت حصة الصناعة إلى 18 في المئة، والزراعة من 10 في المئة إلى 5 في المئة، وأصبحت نصف الأراضي الزراعيّة غير مستغلة أو أن إنتاجيّتها متدنية جداً.