من الطبيعي أن يعيش الاقتصاد البريطاني حالة من الركود المصحوب بتضخّم، بسبب تزامن ارتفاع أسعار المواد الأوليّة مع أزمة الرهونات العقاريّة الأميركيّة. ولكن اللافت هو أنّ هذه المرحلة ستكون أسوأ من تلك التي تمرّ بها الولايات المتّحدة. الأسباب واحدة ولكن رعب الانعكاسات يختلف
حسن شقراني
رئيس الوزراء البريطاني، غوردن براون، يعيش ربّما أسوأ مرحلة من حياته السياسيّة. فبعد هبوط حاد في مستوى شعبيّته منذ تسلّمه زمام الأمور من زميله طوني بلير، العام الماضي، يقف الآن حائراً أمام المعضلة التي يعانيها اقتصاد بلاده. التوصيف أصبح واضحاً للحالة التي تعانيها الاقتصادات الأكثر تضرّراً من أزمة الرهونات العقاريّة الأميركيّة: ارتفاع في الأسعار بسبب غلاء المواد الأوليّة، بموازاة تراجع في حركة عجلة الاقتصاد... ركود تضخّمي؟ نعم.
فالاقتصاد البريطاني يبدو جاهزاً للدخول في مرحلة ركود بسبب استمرار الانهيار في قطاع المنازل، وعدم تعافي القطاع المصرفي بالشكل الصحيح بعد. وفي الوقت نفسه، تشبه الصدمة النفطيّة التي تعانيها البلاد تلك التي ظلّلت الواقع الاقتصادي في سبعينيّات القرن الماضي. فأسعار الموادّ الطاقويّة للمصنّعين ارتفعت بنسبة 30.3 في المئة منذ بداية العام الجاري حتّى حزيران الماضي، وهي أكبر نسبة ارتفاع منذ تشرين الثاني عام 1974. وبالتالي، فإنّ هذا الارتفاع سيتحوّل إلى بائعي التجزئة، وسترتفع الأسعار التي يشتري بها الأخيرون السلع بنسبة تزيد على 10 في المئة، وهي نسبة الارتفاع السنوي المسجّلة في حزيران.
وإذا لم يحتوِ بائعو التجزئة هذه الزيادة في التكلفة فإنّ الارتفاع سيضرّ بالمستهلك، وسترتفع نسبة تضخّم الأسعار الاستهلاكيّة، بما يزيد على نسبة الـ2 في المئة التي حدّدتها الحكومة هدفاً. وهذه الحقيقة تقلق المصرف المركزي، الذي يسعى بحسب أحكام المرحلة إلى دفع النموّ أماماً لا حدّه من خلال رفع أسعار الفوائد.
وهنا يبرز الاختلاف بين بريطانيا وحليفتها في الضفّة الأخرى من الأطلسي. فعندما ظهر طيف الركود في الولايات المتّحدة، سارع الاحتياطي الفدرالي إلى خفض أسعار الفوائد، بينما المسؤولون البريطانيّون، محكومين بهاجس مواجهة التضخّم، مضطرّون إلى الإبقاء على سعر الفائدة الأساسي عند مستويات مرتفعة (5 في المئة). وبالتالي، فإنّ الضرر الذي سيلحق بالاقتصاد البريطاني، على المدى المتوسّط، جرّاء الأزمة الماليّة العالميّة، سيكون أكبر من ذلك الذي شهده رديفه الأميركي. الأمر الذي يؤكّده، دايفيد بلانشفلاور، وهو أحد الأعضاء التسعة في «لجنة السياسة النقديّة» في المصرف المركزي البريطاني.
فهو يقول، حسبما نقلت عنه صحيفة الـ«غارديان»، «أعتقد أنّنا متوجّهون نحو ركود ونحن ربّما في واحد الآن، إذاً فما حدث في الولايات المتّحدة سيحدث في المملكة المتّحدة، ولكن الأمور هنا ستكون أسوأ... لأنّ الأخيرة لم تقدّم رزمة حوافز»، مثلما فعلت السلطات الماليّة الأميركيّة، وذلك في إشارة إلى رزمة الخفوضات الضريبيّة التي تزيد على 150 مليار دولار، والتي ستحقنها الحكومة الأميركيّة في الاقتصاد.
إذاً، فالاقتصاد البريطاني، بحسب جميع المؤشّرات، سيشهد فترة مظلمة طابعها ركود تضخّمي، سيكون أسوأ من الذي تشهده الولايات المتّحدة، حيث بلغت نسبة البطالة 5.5 في المئة في أيّار الماضي، وذلك يؤكّد أنّ «المرحلة» التي يعيشها ستطول إلى حين توليف علاج جديد يأخذ بعين الاعتبار الضغوط التضخميّة ومخاطر الركود.
وفي هذا السياق، ترى مجموعة التوقّعات الاقتصاديّة، «ITEM»، التابعة لشركة الاستشارات الماليّة، «ERNEST AND YOUNG»، أنّ «فيلم الرعب» الذي يعبّر عن حالة الاقتصاد البريطاني، سيستمرّ خلال الأشهر المقبلة، وسيشهد هذا الاقتصاد نمواً بنسبة 1 في المئة عام 2009، وهي نسبة أقلّ بكثير من توقّعات وزير الماليّة أليستر دارلينغ: بين 2.25 في المئة و2.75 في المئة.
ورغم حديثها عن أنّ الصورة ليست قاتمة مثلما كان الوضع عليه في بداية تسعينيّات القرن الماضي حين كان الاقتصاد يعاني ركوداً أيضاً، تشدّد على أنّ من المهمّ فرض رقابة على الأجور كي لا يجمح التضخّم خارج السيطرة. أساساً نسبته حالياً هي أعلى من المعدّل السنوي خلال 16 عاماً.
وتتوقّع المجموعة أنّ تنخفض أسعار المنازل بمعدّل 10 في المئة خلال العام الجاري، «والأمور ستسوء أكثر بكثير قبل أن تعود لتتحسّن»، حسبما قال كبير الاقتصاديّين في المجموعة، بيتر سبنسر.
... وإلى حين العودة إلى «الاستقرار» المنشود، بدأت الاحتجاجات من داخل الجسد الحكومي. فزيادة رواتب موظّفي مجالس البلديّات، بنسبة 2.45 في المئة «لا تعني شيئاً»، بينما تضخّم الأسعار الاستهلاكيّة هو عند 4.6 في المئة. هل تتحوّل الاحتجاجات إلى تظاهرات، من مصلحة العام الانتخابي المقبل لبراون ألّا يحدث ذلك.


قاعدتان ذهبيّتان!

تواجه حكومة حزب العمّال في بريطانيا انتقادات بسبب تفضيلها إخضاع الإنفاق العام لـ«قوانينها» عوضاً عن العكس. فالبيانات الماليّة توضح أنّ الحكومة اقترضت أكثر من 24 مليار جنيه خلال الربع الأوّل من العام الجاري، وهو رقم قياسي منذ عام 1946. وتقوم العقيدة الاقتصادية للحكومة على مبدأين:
1 ـــــ «القاعدة الذهبيّة» التي تفيد أنّه يحقّ للحكومة الاقتراض للاستثمار فقط في الدورة الاقتصاديّة.
2 ـــــ «قاعدة ثبات الاستثمارات» التي تحدّد سقفاً «حذراً» للدين العام.