لا تزال تنقصنا أشياء كثيرة نأمل أن يتمتّع بها شعبنا، ولكن لا يمكننا إنفاق أكثر ممّا نملك» قال الرئيس الكوبي راوول كاسترو في الذكرى الـ55 لانطلاق الثورة في الجزيرة الشيوعيّة. خاصرة الولايات المتّحدة صامدة منذ منتصف القرن الماضي، صمود يتماهى مع حضارة منتشرة حتّى في الريف
كوبا ــ عمر نشّابة
الطريق من «سانتياغو دي كوبا»، ثاني أكبر مدن الجزيرة، إلى أدغال «سييرا مايسترا»، حيث انطلقت الثورة منذ 55 عاماً (في 26 تموز عام 1953) تشبه طرق الجنوب والبقاع والجبل في لبنان بعد العدوان الإسرائيلي في صيف 2006. الحفر وسط الطريق وعلى جانبيها. حفر عميقة يصعب على السيارات وحتى الدواب اجتيازها. وبعد ساعات من المعاناة قد تتمكن السيارات من الوصول إلى قرية «ماتياس» الصغيرة وسط الأدغال.
هنا في أقصى الريف الكوبي يعيش الناس من رعي الأبقار والثيران وزراعة القهوة والكاكاو بسبب كثافة الغابات، حيث تجتاح النباتات الاستوائيّة المتنوعة الجبال لتغطيها كلياً. ويشقّ أبناء الريف الطرق بين القرى الصغيرة بالسواطير، يقطعون بها الأغصان التي تعوق كثافتها وجهتهم. ينتقلون مشياً على الأقدام، وأحياناً دون ارتداء أحذيتهم، عشرات الكيلومترات بين مساكنهم البسيطة، وهي عبارة عن أكواخ خشبية سقفها الهرمي الشكل مصنوع من أغصان شجرة البالما والقش. ويحيط بالأكواخ الدجاج والبط والدواب.
قرية «ماتياس» وأدغال «سييرا مايسترا» الكوبية التي تبدو الحياة فيها بدائية لا بل متخلّفة عن تطور العصر، هي في الحقيقة أكثر تطوراً بأضعاف من غالبيّة قرى الريف اللبناني وكثير من أحياء المدن وخصوصاً في الشمال وعكار وبعلبك الهرمل والجنوب وحتى جبل لبنان، وصولاً إلى العاصمة بيروت.
ففي القرية، وحتى في القرى الأبعد والمتوغلة أكثر في عمق الأدغال، كقرية «فيليه» مثلاً، مدارس مجانية بالعشرات. التعليم في كوبا إجباري لكل الناس ونسبة الأمية تقارب الصفر. لعلّ ذلك بالنسبة إلى البعض لا يشير إلى تطوّر لافت، لكن ما لا يمكن تجاهله هو أن المدارس، حتى أبعدها وسط الأدغال، مجهّزة بصف خاص لتعليم استخدام الكومبيوتر.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أنّ التيار الكهربائي يصل إلى كلّ القرى دون انقطاع، وكلّ كوخ، مهما صغر حجمه، مجهّز بتلفزيون ومصابيح «نيون» خاصّة بتوفير الطاقة. ويأمل الكوبيّون بأكثر، وخصوصاً بعد «وعود التحديث» التي قطعها راوول كاسترو، خلال العامين الماضيين منذ تسلّمه الرئاسة من أخيه الزعيم التاريخي، فيديل، والتي يشعر سكّان الجزيرة فعلياً بتحقّقها تدريجاً.
... خوسيه شاب كوبي من سكان أدغال «سييرا مايسترا»، وهو من أصل أفريقي و«هندي» (سكان الجزيرة الأصليّون). فقبل 500 عام شن المستعمرون الإسبان حرب إبادة ضد السكان الأصليين ونقلوا عشرات آلاف الأفارقة عبيداً إلى كوبا ليعملوا في زراعة قصب السكر. لكن عدداً من هؤلاء حرر نفسه من الاستعباد ولجأ إلى الأدغال حيث كان قد لجأ أيضاً من بقي من السكان الأصليين.
حريّة خوسيه اليوم لا تقتصر على التخلّص من الاستعباد، بل تذهب أبعد من ذلك بكثير. خوسيه يبيع الفاكهة ويرعى الدواب في أعالي جبال «سييرا مايسترا» وهو متخصّص في تحويل أغصان البالما إلى أكواخ. وخلال أوقات الفراغ يطالع كتب التاريخ والعلوم السياسية. يحب السياسة ويتحدث عن القضيّة الفلسطينيّة وضرورة إيجاد حل لتدخّل الإدارة الأميركية في شؤون الدول وتحقيق العدل ومواضيع أخرى يصعب تخيّل أن بائع فاكهة وسط الأدغال يتناولها بدقة ووعي.
غير أن تطور الريف الكوبي لا يقتصر على التربية والتعليم ووصول الكهرباء إلى أبعد القرى دون انقطاع، بل يشمل أيضاً ما قد يكون أهم من ذلك: الخدمات الطبية والصحية المجانية للجميع. ففي قرية «ماتياس» الصغيرة مستشفى يعمل فيه 10 أطباء متخصصون (طب الأطفال، توليد، جراحة عامة، عظم، جهاز تنفسي، جهاز هضمي، عيون، أنف وأذن وحنجرة)... إضافة إلى المستشفى تنتشر العيادات الطبية في القرى الأبعد، ففي قرية «فيليه» مثلاً عيادتان طبيتان.
ويزور الأطباء دورياً الأكواخ المنتشرة في الأدغال من أجل التدقيق في صحّة السكّان وذلك ضمن سياسة الطبّ الوقائي والإرشاد الصحّي. كذلك فإن الأطباء يعاينون المرضى في أكواخهم إذا تعذّر وصولهم إلى العيادة أو المستشفى بسبب مشقّة الطريق وطولها، وكل ذلك مجاناً.
صحيح أن كوبا التي تفرض عليها الولايات المتحدة حصاراً منذ نصف قرن، محرومة من الطرقات المعبّدة والأوتوسترادات والسيارات والآليات والمحال التجارية والمنتجات الأساسية في المجتمعات الاستهلاكية... متعة الاستهلاك و«روائع» المتاجر الكبرى لا يمكن إنكارها، لكن في كوبا التربية والتعليم والطبابة والصحة متوافرة للجميع مجاناً والنور يضيء المساكن دون انقطاع. ما هو رأي أبناء قرى عكار والمنية والهرمل وبعلبك والبقاع الغربي والجنوب وجبل لبنان بذلك؟


الهاتف الخلوي

يشدّد راوول كاسترو على «أنّنا يجب أن نستمرّ في التركيز على الدفاع... وتحديث الأسلحة إضافة إلى استمرار ترقية وتدريب الضباط وتطوير المعدّات العسكريّة». وخطابه العسكري الذي تلاه في ذكرى الثورة في سانتياغو دو كوبا، لم يتضمّن أيّ ذكر لإصلاحات جديدة، تضاف إلى تلك التي كان قد أعلن عنها وبدأ تطبيقها مثل إعطاء الحق للكوبيّين في المكوث في الفنادق المخصّصة للسيّاح و«شرعنة الهاتف الخلوي». ومن بعض الإجراءات المرتقبة تلك المتعلّقة بمنح القطاع الخاص الحقّ في استثمار الأراضي الزراعيّة البور.