انتظرت فرنسا نحو عامين لتعلن موقفاً واضحاً من اتفاق «الشراكة العابرة للأطلسي»، بالتزامن مع الجولة الثالثة عشرة من المفاوضات حول اتفاق غير مرغوب فيه داخل أوساط المجتمع المدني في الاتحاد الأوروبي، فيما تشجعه المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل.
ويبدو أن الاتفاق محط شكوك في فرنسا، في حين أن الأسباب التي تدفع الحكومة في باريس إلى التشكيك فيه، ليست «أفضل من الاتفاق نفسه»، كما يصف النائب الأوروبي عن «مجموعة أحزاب الخضر» في البرلمان الأوروبي يانيك جادو، لموقع «ميديابار» الفرنسي.
ويظهر وزير الدولة الفرنسي للتجارة الخارجية، ماتياس فيكل، عرّاباً للرفض، مع إعلانه، أمس، أن فرص التوافق على الاتفاق تتراجع. فيكل، الذي يمثل فرنسا في المفاوضات بشأن الاتفاق، عدّد في حديث إلى إذاعة فرنسية، المواضيع التي تترقب بلاده تحقيق التقدم بشأنها في التفاوض، ومنها «البيئة وشفافية المفاوضات وآليات التحكيم»، مؤكداً أنه «ليس هناك تسرع، لا فرنسي ولا أوروبي، للتوقيع بأي ثمن على أي شيء».
ووزير التجارة ليس جديداً على معارضة «الشراكة العابرة للأطلسي»، فقد كان الأمر في العام الماضي من ضمن عناوينه الأساسية في حملته للانتخابات الإقليمية، حينما قال إن «فرنسا أمام عدد من الخيارات، من ضمنها، ببساطة، الانسحاب من المفاوضات». في العمق، إنّ فيكل (الاشتراكي) ينتقد عدم الشفافية في المفاوضات، ويرى أن واشنطن لم تقدم تنازلات كافية في الملفات التي تصبّ في مصلحة فرنسا. ومنذ تسلّمه مهماته في أيلول 2014، تمكن من تحقيق نجاحات سياسية وهو «يناضل على جبهة اتفاق الشراكة العابرة للأطلسي»، وفق تقرير في موقع «ميديابار».
برز «نضال» فيكل خصوصاً في قضية الجهة التحكيمية المزمع إنشاؤها في الاتفاق الذي يسمح للشركات المتعددة الجنسيات بأن تقاضي الدول، فتمكن من أن يحرك المناقشات حول هذا البند، لكنه في ذلك الوقت كان «يقاوم وحيداً»، من دون أن يعرف ما إذا كان الإليزيه يسير معه.
وبدا آنذاك أن القصر الرئاسي يغرّد باتجاه مغاير، خصوصاً مع تصريح الرئيس فرانسوا هولاند، خلال زيارته الولايات المتحدة عام 2014، بأنه يرغب «في تسريع المفاوضات التجارية». في ذلك الوقت، كان الهمّ الأكبر لدى فرنسا، بنداً وحيداً، هو أن المفاوضات لم تتناول الخدمات السمعية ــ البصرية؛ «هذا كل ما كان لدى الحكومة الفرنسية أن تعترض عليه في ذلك الحين، في مقابل وجود بنود أكثر جدلية مثل الجهاز التحكيمي التابع للمعاهدة»، وفق «ميديابار».
ليس أمام هولاند سوى معارضة الاتفاق لاعتبارات داخلية عدة

لكن الموقف تبدّل الآن. وصار من بين المواضيع الأساسية بالنسبة إلى فرنسا والضرورية لسير الاتفاق، درجة انفتاح الأسواق الأميركية للمستثمرين الأوروبيين أو «التبادل التجاري»، وهو ما أكده هولاند منذ أسبوعين. فقد رفع الرئيس الاشتراكي سقف لهجته بشأن الاتفاق، حينما قال في حديث تلفزيوني عبر قناة «فرانس 2»، إن «فرنسا قد حددت شروطها: من دون وجود تبادل وشفافية وفي حال وجود خطر على مصلحة المزارعين، وإذا لم يكن لدينا قدرة الولوج إلى الأسواق العامة في مقابل تمكن الولايات المتحدة من ذلك... فلن نقبل بالاتفاق».
يبدو هذا الكلام متناسقاً مع ما أشار إليه فيكل، الذي قال إنه لا يرى أن «على أوروبا أن تتبع الولايات المتحدة»، مضيفاً: «المجموعة الاقتصادية الأولى في العالم هي أوروبا، والمجموعة الأولى التي لها وزن في الاقتصاد الدولي من حيث قيمتها وحجمها هي أوروبا... وعليها أن تُسمع صوتها بصفتها هذه».
إذاً، تبدو الخطوط السياسية العريضة لرفض الاتفاق واضحة: فرنسا لن تخسر شيئاً في حال خروجها من مفاوضات لا تتناسب مع شروطها، مقابل أنها قد تكسب كثيراً في الساحة السياسية مع الخروج من مفاوضات مرفوضة في الشارع الفرنسي والأوروبي، وفق ما يشرح تقرير في صحيفة «لوموند» الفرنسية.
يأتي ذلك مع اقتراب السباق الرئاسي في البلاد، فيما لم تعد هناك خيارات كثيرة أمام هولاند سوى معارضة الاتفاق، مع حمل الأحزاب المنافسة، مثل «الجبهة الوطنية» واليمين الفرنسي – لكل منها أسبابه المختلفة – شعار المناهضة لـ «الشراكة العابرة للأطلسي».
من هنا، يلفت يانيك جادو، في مقابلته مع «ميديابار»، إلى «ازدواجية» السلطة الفرنسية في التعامل مع ملف الاتفاق. يقول جادو إن الحكومة تريد «إرضاء» الأطراف الداخلية المناهضة للاتفاق عبر قولها لهم: «نحن جاهزون لمغادرة المفاوضات»، لكن الأسباب الفعلية التي تنطلق منها «هي الأسوأ». لكن تدقيقاً أكثر يظهر أن هولاند، ورئيس الحكومة، مانويل فالس، والوزير ماثياس فيكل، يطلبون من الأميركيين أن يحرروا أسواقهم بقدر ما ستفعل أوروبا، خصوصاً في ما يتعلق بمسألة الولوج إلى الأسواق العامة، يوضح جادو.
في المحصّلة، ما يريده الثلاثي هولاند ــ فالس ــ فيكل، هو أن يكون الأميركيون «أغبياء» بقدر الأوروبيين، وأن يفتحوا أسواقهم العامة بصورة كلية على أوروبا. ويوضح جادو أن الثلاثي يقدم نفسه كأنه «بديل للعولمة»... في الواقع «فإن السبب خلف مناهضتهم للاتفاق هو أسوأ ما في الليبرالية الساذجة اليوم».
واللافت في هذا الإطار أن فيكل، المعارض الشرس للاتفاق، هو من أشد المعجبين باتفاق «سيتا»، بين الاتحاد الأوروبي وكندا، الذي من المزمع اعتماده الخريف المقبل، معتبراً إياه «نقيض اتفاق الشراكة العابرة للأطلسي». لكن الناشطة أميلي كانون ترى، في حديث إلى «ميديابار»، أنه على العكس؛ «يتضمن سيتا البنود عينها، اللاعادلة والسيئة، المطروحة في اتفاق الشراكة العابرة للأطلسي، ومنها التحكيم» الدولي.
يبدو أن الحكومة الفرنسية الاشتراكية، التي تراجعت شعبيتها، تحاول بمعارضتها للاتفاق، أن تظهر بمظهر «المدافع عن أوروبا» وأن «توفّق مع اليسار»، وفق تقرير لصحيفة «ليبيراسيون» الفرنسية، خصوصاً أن هذه «المعركة» جديدة على هولاند. يأتي ذلك مع اعتراض اليسار الفرنسي بمعظمه، على الاتفاق، منذ البداية، وهكذا يصير «جدل» مناهضة «الشراكة العابرة للأطلسي» من الأوراق الرابحة التي قد يرى «الاشتراكي» أنها سترفع شعبيته من جديد.