لعلّ من باب الصدفة المثقلة بالرمزيات أن يتزامن انتهاء المؤتمر العاشر «الاستثنائي» لحركة النهضة مع إعادة التمثال الشهير للرئيس ــ الزعيم الراحل، الحبيب بورقيبة، (خصم الإسلاميين... كما غيرهم) إلى مكانه في قلب العاصمة قبالة مقر وزارة الداخلية، بعد نحو 29 عاماً على إزالته من قبل زين العابدين بن علي. تلك الصدفة (المريبة) كانت لافتة بالنسبة إلى متابع أحداث مؤتمر النهضة، من بيروت

نجحت حركة النهضة، خلال الأيام الماضية، بتحويل مؤتمرها العاشر إلى حدث يرتقي إلى مستوى مسألة "شأن عام" في البلاد، وأن تجري متابعته بكثير من الاهتمام على الصعيد العربي.


وبلا أدنى شك، هذا نجاح يُسجّل للنهضة ولزعيمها، راشد الغنوشي، الذي أعيد انتخابه، مساء أول من أمس، رئيساً لولاية أخيرة تنتهي عام 2021، متعهداً ببذل أقصى ما في وسعه في "إصلاح دارة الحركة". وأشار الغنوشي، في كلمته الختامية، إلى "النجاح الباهر (لهذا المؤتمر)، خاصة لتناوله قضية مضمونية كبيرة، هي إدارة المشروع الإسلامي"، التي أوضح أنها باتت تتلخص "في التمييز بين السياسي وبين النشاطات المجتمعية، (أي) النشاطات الثقافية والرياضية والخيرية... ما يمثل نقطة كبيرة للحركة وللبلاد".

عام 2012، خلال المؤتمر التاسع للحركة، طُرحت مسألة "التمييز" بين المجالين وجرى تأجيلها بسبب الخلافات الداخلية في النهضة. أما اليوم، بعد إعلانها، فسيبقى الطرح الجديد محل جدال واسع خلال الفترة المقبلة محلياً وعربياً، نظراً إلى أهمية تبنيه من قبل حركة إسلامية نشأت قبل عقود بالارتكاز على مفاهيم القرن الماضي للإسلام الحركي.

«فصل» غامض... وإستراتيجي

في ورقة بحثية نشرت قبل أيام، نبّه الباحث، عبد الحق الزموري، إلى نقطة مهمة، في سياق تفنيده لفكرة الفصل بين المجال الدعوي والمجال السياسي ولفكرة "القطع نهائياً مع شمولية التنظيم". هو يرى أنّه "بالنظر إلى أنّ التخلي عن الصبغة العقائدية للحزب يعدّ القرار الأخطر الذي ستُقدم الحركة على اتخاذه بدفعٍ من عمل تثقيفي بيداغوجي كبير قام به راشد الغنوشي... (وخوفاً من التباس الأمر لناحية إمكانية التخلي عن المرجعية الإسلامية)، قامت القيادة المركزية للنهضة بتعديل خطابها في الأيام الأخيرة والالتجاء إلى ما يشبه الحيل الفقهية لإيجاد مخرج لذلك الحرج، وذلك من خلال القول إنّ التوجه الجديد يعتمد على التفرّغ الوظيفي"، وهو ما تحيل إليه عبارة "التخصص في الشأن السياسي" التي كانت تستخدمها قيادات النهضة أخيراً. ويلفت الباحث، في معرض شرحه (المستقطع هنا)، إلى خطورة ضم "الشأن الثقافي" ضمن المجال الدعوي، لأنّ "المشكلة تبدأ من مقاربة السياسي نفسه وتحديد مجالاته ورسم تخومه، أي من استعمال المفهوم في معناه التقني الضيّق جداً، ولعلّ ذلك يتعارض مع ما يتطلبه حزب حُكمٍ".

على الرغم من أنّ النقاش مفتوح، خصوصاً أنّ انعقاد المؤتمر ومخرجاته قد جاءا في غمرة مرحلة دقيقة جداً بالنسبة إلى مجمل الحركات الإسلامية، فإنّ أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في "جامعة جونز هوبكنز" الأميركية، خليل العناني، يرى في رده على سؤال لـ"الأخبار"، أنّ "التحولات التي تشهدها حركة النهضة ليست وليدة اليوم، بل تمت عبر تراكم فكري وإيديولوجي طوال العقدين الأخيرين، لكن الظرف السياسي الحالي، سواء في تونس أو في المنطقة، هو الذي أخرجها". ويرى العناني أنّ "قرار الحركة بالفصل بين السياسي والدعوي يمثّل قطيعة مع الإسلام السياسي الكلاسيكي، أو التقليدي، الذي كان يركز على التنظيم باعتباره هدفاً بحد ذاته، و(كان) غارقاً في قضايا هوياتية وثقافية ولاهوتية جدلية". ويختتم الأكاديمي المصري مداخلته قائلاً: "إنّ حركة النهضة تتحول الآن إلى حزب سياسي مدني، شأن الأحزاب المسيحية في أوروبا، وهو ما سيفرض تبني خطاب ولغة ومفردات جديدة تختلف عما كان سائداً في الماضي، وهو أمر لن تظهر نتائجه الآن، بل بعد سنوات".



أدت العمليات إلى

مقتل والي الفلوجة وعدد

من معاونيه


في السياق نفسه، يرى أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، حسن نافعة، خلال حديثه إلى "الأخبار"، أنّ للقرار أهمية كبيرة على صعيد الإسلام السياسي، وأنه لا يجب التقليل من أهميته. ووفقاً له، فبالرغم من أنّ "المنظمة الأم" (جماعة الإخوان المسلمين) قد بدأت في مصر، فإنّ الحركة الإسلامية "أصبحت عالمية"، وأنّ "التطور" الذي حدث بخصوص النهضة "بالغ الأهمية والدلالة"، لأنه سيفتح نقاشاً حول مسائل إشكالية (مثل علاقة الإسلام والعلمنة). وبينما يبدي نافعة اعتقاده أنّ عبارة "فصل الدعوي عن السياسي هي تسمية خجولة لفصل الديني عن السياسي"، فإنه يقول: "أظن أنّ الإسلام لا يعارض هذا، وهو فهم جريء يخرج عن القوالب التقليدية". ويشيد الأكاديمي المصري بتجربة النهضة لكونها "قادرة على التأقلم... ولأنها تفهم السياسة وتستوعبها"، معرباً في الوقت نفسه عن حماسته وعن تفاؤله. لكن على الرغم من ذلك، فإنه يشير إلى حدود هذا القرار لناحية التأثير، لأنّ قدرة النهضة في ذلك ليست، على سبيل المثال، كما قدرات "جماعة الإخوان المسلمين".

لا بد من انتظار التطورات المقبلة، ولا بد من متابعة العمل السياسي لحركة النهضة عن قرب خلال المراحل الآتية، نظراً إلى أهمية ما أقرّ، ونظراً إلى أننا على ما يبدو أمام تجربة خاصة بتونس قد تشبه بصورة أو بأخرى تجربة رجب طيب أردوغان وحزبه (العدالة والتنمية) في تركيا. لكن لا بد من الإشارة أيضاً إلى أنّ الحركة بقرارها "الفصل بين الدعوي والسياسي" تهدف إلى "إخراج عدد من الجمعيات من حضنها، وإلى عدم عقدها اجتماعات سياسية حول مسائل مجتمعية وثقافية أو دينية... (خصوصاً أنّ) لدى الغنوشي شبه هاجس بإقناع الشركاء الغربيين بأن النهضة ليست الإخوان المسلمين"، كما قال مصدر دبلوماسي أوروبي لوكالة "فرانس برس" أمس.

تحولات صعبة

على المستوى الداخلي للحركة، فقد اكتسب انعقاد المؤتمر الحالي أهمية خاصة بالنظر إلى أنّه خلال المؤتمر السابق (التاسع، في صيف 2012)، الذي كان الأول بعد الدخول إلى السلطة، «كان على النهضويين القيام بحركة مزدوجة محمّلة بالدلالات: الأولى لجم الخلاف الحاد الذي برز أثناء المؤتمر بين القادة التاريخيين والقادة الشباب، أو تأجيله، وإيجاد المخرج التوافقي لإدارته خارج المؤتمر. والثانية، متمثلة بقرار جماعي مفاده ترحيل ملفات التقييم والهيكلية والرؤية الفكرية للحركة إلى مؤتمر استثنائي يُعقد بعد سنتين، يتمّ الإعداد له وتعميق النقاش فيه. إلا أنّ احداثاً كثيرة معقدة دفعت إلى تأجيل المؤتمر العاشر إلى منتصف عام 2016»، وفق ورقة عبد الحق الزموري. لكن التأجيل في حينه، لم يمنع من بروز خلافات عدة راهناً، خصوصاً أنّ المؤتمر الحالي ينحصر انعقاده بين زمنين: زمن الدخول إلى الدولة (2011) وما تبعها من تجرية مريرة للحركة، وزمن التحضير لعهد حكم الدولة... ولعهد وراثة الزعيم المؤسس، راشد الغنوشي، الذي رمى بقرار يمكن وصفه بـ»قرار خريف العمر»، مورثاً إياه لأجيال الحركات الإسلامية المقبلة.

من جهة أخرى، ومن باب تقييم «القرار»، يشكك عبد المجيد الشرفي، وهو أحد أبرز الباحثين والمفكرين التونسيين في مجال دراسة الفكر الإسلامي وعلاقته بالحداثة، في إجاباته عن أسئلة "الأخبار"، بإمكانيات حدوث تحولات كبيرة ضمن النهضة، ويقول: "إنني وإن كنت من الذين يأملون بتحوّل النهضة إلى حزب سياسي عصري، أشك كثيراً في إمكانية هذا التحول في الظرف الراهن، لعدة أسباب". ويعرض خمسة أسباب، هي:

"(أولاً،) أنّ زعماء النهضة الحاليين، بدءاً برئيسها، متشبعون بالفكر الإخواني ولا أظن أنهم مستعدون للتخلي عما آمنوا به ودافعوا عنه طوال عقود، (أو هم) قادرون على ذلك.

(ثانياً،) أنهم برهنوا في السابق على أنهم لا يحترمون تعهداتهم، وذلك منذ أن وقّعوا مع 11 حزباً على تعهد بأن تكون مدة المجلس التأسيسي (2011) سنة واحدة، فإذا بهم عند نجاحهم في الانتخابات يتنكرون لما تعهدوا به كتابياً ويعتبرونه تعهداً أخلاقياً غير ملزم. ولم يعتذروا إلى اليوم عن انعدام الأخلاق هذا.

(ثالثاً،) لم تحصل عندهم مراجعات فكرية ونظرية عميقة تجعلهم يتخلون عن المثل الأعلى المتمثل في طوبيا الخلافة، وعن وهم الاقتصاد الإسلامي القائم على الممارسات القروسطية من أوقاف وزكاة وقروض من دون فائدة، وما إليها.

(رابعاً،) أن ارتباطاتهم الدولية ارتباطات مشبوهة، بل هي تنتمي كلها إلى معسكر الرجعية والتحجر ومعاداة الديموقراطية الفعلية بما تقتضيه من مساواة تامة بين الجنسين في القانون وأمام القانون، ومن حرية الضمير وحرية التفكير والتعبير. (خامساً،) أن مجرد تشبثهم بالدعوة في مجتمع مسلم، وإن كان في نطاق جمعيات مستقلة شكلياً عن الحزب المختص في السياسة، دليل على أنهم لم يتخلوا عن تقسيم المسلمين إلى صنفين: صنف يساير إيديولوجيتهم، وصنف يتعيّن العمل على هدايته إلى ما يعتبرونه الطريق المستقيم. وهذا هو نفس الباب الذي يفتح على المزايدة في الدين ويؤدي بصفة طبيعية إلى سلوك العنف والإرهاب على طريقة داعش وأخواتها. وفي الإيمان بضرورة الدعوة هذه إيمان بتفاوت التكليف وبضرورة الوصاية على المواطنين".




جيلٌ عصيّ على التوريث؟




أعمال إعادة تمثال بورقيبة (أ ف ب)


أثناء الحديث إلى «الأخبار»، يشير أحد المتابعين الضليعين بشؤون حركة النهضة إلى يقينه بأن "شيئاً لن يتغير في حركة النهضة التي منذ زمن طويل ــ لا يقل عن خمس سنوات ــ لم تشتغل بالدعوي في أي مستوى من مستوياتها، وبالتالي إنّ مسألة الفصل وجعلها أم المعارك هي للتسويق الإعلامي فقط". ويقول إنّ "الشيخ راشد مقتنع بالفعل بضرورة الاشتغال على تطوير الفكر الديني من داخل المنظمومة، وأعتقد أن له دوراً مهماً في تطوير الفكر الإسلامي بشكل عام". لكن المتابع القريب من النهضة يشير في ختام حديثه إلى أنّ المشكلة تكمن في "أن الغنوشي ينتمي بصورة أو بأخرى إلى نفس جيل بورقيبة والباجي قائد السبسي، وهؤلاء لا يسلّمون بسهولة بناءً سهروا في إقامته عقوداً عديدة.... يعتقدون أن السفينة تغرق من دونهم".